سماحة المرجع الشيرازي دام ظله لطلبة من مدرسة ابن فهد الحلي رحمه الله: علم بلا تقوى يعني اتّباع إبليس

أكّد سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله على ضرورة ولزوم سعي طلبة العلوم الدينية إلى التعمّق العلمي في علوم آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين، والالتزام بتقوى الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة، وبالتعامل بالأخلاق الفاضلة والحسنة مع الجميع، معتبراً تلك الأمور الثلاثة بأنها سلّم رقي طالب العلم، ونيله الدرجات الرفيعة، وبلوغه المراتب العالية في المستويات العلمية، فضلاً عن سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة.

جاء ذلك في توجيهاته القيّمة التي ألقاها سماحته بجمع من طلبة العلوم الدينية في حوزة كربلاء المقدسة مدرسة العلاّمة ابن فهد الحلّي قدّس سرّه، الذين زاروا سماحته في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، خلال الأيام العشرة المهدوية المباركة (شعبان المعظّم 1435 للهجرة ـ حزيران 2014م). فقد قال سماحته في توجيهاته القيّمة:

قال الله تعالى في القرآن الحكيم: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)[1].

إنّ طالب العلم الديني يخوض أهمّ معركة ضد إبليس، وضد الفساد في العقيدة، وضد الفساد في الأخلاق. ولذا ورد في الحديث الشريف عن مولانا الإمام الصادق صلوات الله عليه حول أهل العلم: (علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته)[2].

وتساءل سماحته: فما الذي يصنعه إبليس وعفاريته؟ وما هو همّهم؟ وما هو الذي يبذلونه من الطاقات؟

وأجاب سماحته: إنّ الذي يصنعه إبليس وعفاريته هو شيء واحد، وهو ما نقله القرآن عن إبليس نفسه: (لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[3].

وأوضح سماحته: البشر الذين ليسوا في صراط الله المستقيم، كالمشركين والوثنية وأهل الكتاب والمنحرفين عن أهل البيت صلوات الله عليهم.

أما الصراط المستقيم الذي ذكره القرآن في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)[4]، فقد فُسّر في تفاسير الخاصّة والعامّة، وبروايات متواترة، هو صراط أهل البيت صلوات الله عليهم. وأما غيرهم فليسوا بالصراط المستقيم. وإبليس يجلس للذين هم في الصراط المستقيم الذي يؤدّي إلى الله تعالى وإلى معرفة ما أمر الله به، ومعرفة أحكام الله تعالى، ومعرفة الفضائل والتحلّي بها، واجتناب الرذائل. وأما غير أهل البيت صلوات الله عليهم، فهم ليسوا بالصراط المستقيم، ولا عمل لإبليس معهم، لأن طريقهم لا يودّي إلى الله تعالى.

إذن فهمّ إبليس هو مع الذين يتبعون الصراط المستقيم، وبالأخصّ أهل العلم منهم، وذلك لكي يحرفهم عن العقائد الصحيحة، وعن الأخلاق الفاضلة، وعن العمل بالواجبات وعن ترك المحرّمات.

وشدّد سماحته، قائلاً: إنّ أهل العلم بحاجة إلى ثلاثة أمور، هي:

الأول: التوسعة العلمية والتعمّق العلمي في علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، وهي علوم كثيرة وواسعة، في مجال العقيدة والأخلاق والأحكام. فعلى أهل العلم أن يبذلوا طاقات كبيرة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، التي قال عنها مولانا الإمام الرضا صلوات الله عليه: «يتعلّم علومنا»[5].

نعم لا يمكن تعلّم علوم أهل البيت صلوات الله عليهم كلّها، لأنه لا يوجد المقدار الكافي من العمر، ولا المجال الكافي لذلك، ولكن يمكن عدم التقصير في المجال الممكن لتعلّم هذه العلوم، أي في السفر والحضر، وعند سلامة البدن وعند المرض. وكذلك تعلّم مقدّمات الوجود لهذه العلوم، أي تعلّم المنطق والنحو والصرف والبلاغة، وذلك لفهم علوم أهل البيت صلوات الله عليهم.

وأضاف سماحته، مشيراً إلى نموذج بهذا الصدد من حياة أحد المراجع الأعلام، وقال:

أحد كبار مراجع التقليد رحمة الله عليه نقل لي وقال: كنت طالب علم، وكانت لديّ حجرة في المدرسة التي كنت أدرس فيها. وكان مرجع ذلك الزمان يأتي إلى هذه المدرسة ويدرّس بحث الخارج، وكنت أحضر درسه في كل الأحوال، أي في حال الصحّة وحال المرض. وذات مرّة تمرّضت واشتدّ بي المرض بحيث لم أستطع أن أجلس من شدّة الضعف وشدّة الحمّى. وزارني بعض الطلبة، فرجوتهم وقلت لهم بأنه حال مجيء الأستاذ للدرس، أنا لا أستطيع الحضور والجلوس في حلقة الدرس، فإذا يمكن أن تأخذونني مع الفراش الذي أرقد عليه إلى حلقة الدرس، وضعوني خلف منبر الأستاذ، لكي لا يراني، فأنا أستحي منه أن رآني على هذه الحالة، ولكي لا يفوتني الدرس، فقبلوا بذلك. وفعلاً عندما بدأ الدرس جاءوا وأخذوا بأطراف الفراش وأنا عليه ووضعوني خلف منبر الأستاذ، مع شدّة الضعف الذي ألمّ بي، بحيث كان يصعب عليّ فتح عيني. ولكن حضرت واستمعت إلى الدرس من أوّله إلى آخره.

وعقّب سماحته قائلاً: أمثال هذا الطالب يصبح مرجعاً للتقليد. وهناك الكثير من أمثال هذه القصص. والقرآن الكريم يقول: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِولِي الأَْلْبابِ)[6]. والعبرة تعني التعلّم. فعلى طلبة العلوم الدينية أن يستفيدوا من كل طاقاتهم، بالأخصّ الإخوة الشباب منهم. فالطلاّب مهما يدرسون ويتعمّقون في علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، ومهما يتباحثون، ويطالعون ويتأمّلون، مع ذلك كلّه، فإنّ علوم أهل البيت صلوات الله عليهم، هي أوسع وأكثر. فليحاول الطلبة تحصيل أكثر ما يمكن وليس أقلّ ما يمكن.

الأمر الثاني: التقوى. يقول القرآن الكريم: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا)[7]. و(لو) هو حرف امتناع لامتناع، وتستعمل غالباً في الموارد التي لا تتحقّق. وهكذا يقول الشاعر، استناداً إلى القرآن والروايات الشريفة:

لو كان للعلم من غير التقى شرف           لكان أشرف خلق الله إبليس

يعني، باستثناء أهل البيت صلوات الله عليهم، لكان إبليس أعلم الكلّ. ولكن القرآن الحكيم يقول: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)[8]. فالفقيه ومرجع التقليد يتعب سنوات حتى يستنبط بعض الأحكام. فتحصيل العلم بحاجة إلى وقت طويل، وأما التقوى فلا تحتاج سوى إلى العزم والإرادة والتصميم.

أما إبليس فهو يعلم الأحكام، لأنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله، ولن ينساها، ولكن إبليس ليس بشريف.

قال تبارك وتعالى: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[9].

كما إن مولانا الإمام زين العابدين صلوات الله عليه، يقول: «فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهُ إِلاّ كُفْراً وَلَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلاّ بُعْداً»[10]. فياليت لا يوجد علم بلا تقوى أصلاً. فالجاهل بلا تقوى معاصيه أقلّ، وأما العالم بلا تقوى فمعاصيه أكثر.

الأمر الثالث: الأخلاق.

قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»[11]. فرسول الإسلام صلى الله عليه وآله هو الذي أتى بالصلاة، ولكنه لم يقل (إنّما بعثت لأعلّم الناس الصلاة). نعم هو صلى الله عليه وآله بعث لتعليم الصلاة أيضاً، لكن لم يبعث حصراً بالصلاة.

كما انه صلى الله عليه وآله هو الذي علّم الناس الصوم والحجّ والخمس والزكاة وباقي الأحكام الشرعية، ولكن لم يقل (إنّما بعثت لأعلّم الناس الحجّ والصوم) وغير ذلك.

وشدّد سماحته، بقوله: عالم بلا أخلاق لا فائدة منه، فلا هو يستفيد، ولا غيره يستفيد منه.

في الحديث الشريف عن مولانا الإمام الباقر صلوات الله عليه: «عالم يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد»[12]. والعابد ـ في الاصطلاح الشرعي ـ ليس الذي يصلّي ويصوم فقط، بل هو الذي يقضي أيّامه كلها ـ عدا العيدين والأيام التي يحرم فيها الصيام ـ بالصوم بنهارها، وبالسهر في لياليها إلى الصباح بالعبادة.

وخاطب سماحة المرجع الشيرازي دام ظله، الحضور، وقال: حاولوا أن تلتزموا بالأمور الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، إن شاء الله، بثبات وعزم وإرادة، وأن لا يسلب منكم ذلك إبليس الذي قال: (ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)[13]. فإن التزمتم بها فسيكون الشاب منكم في المستقبل كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والوحيد البهبهاني، وكصاحب الرياض والسيد بحر العلوم والشيخ الأنصاري.

وختم دام ظله، توجيهاته القيّمة، قائلاً: أسأل الله تعالى أن يعينني وأن يعينكم على ذلك كلّه. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

_________

[1]  سورة الإسراء: الآية 7.

[2]  بحار الأنوار: ج2، باب8 ثواب الهداية والتعليم وفضلـ...، ص5، ح8.

[3]  سورة الأعراف: الآية 16.

[4]  سورة الفاتحة: الآية 6.

[5]  وسائل الشيعة: ج27، باب8 وجوب العمل بأحاديث النبي والأئمة، ص92، ح33297.

[6]  سورة يوسف: الآية 111.

[7]  سورة الأنبياء: الآية 22.

[8]  سورة البقرة: الآية 277.

[9]  سورة المائدة: الآية 27.

[10]  أصول الكافي: ج1، باب استعمال العلم، ص44، ح4.

[11]  المستدرك: ج11، باب6 استحباب التخلّق بمكارم الأخلاق، ص187، ح1.

[12]  أصول الكافي: ج1، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ص33، ح8.

[13]  سورة الأعراف: الآية 17.