تقرير الجلسات العلمية لسماحة المرجع الشيرازي دام ظله

الليلة التاسعة عشرة ـ شهر رمضان العظيم 1436 للهجرة

تقرير: الشيخ علي الفدائي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

(اللعب بالورق)

سأل أحد الفضلاء: ما حكم اللعب بالورق بلا رهان؟

فأجاب سماحته (دام ظله): الأحكام التكليفية والوضعية من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة والصحة والفساد وما أشبه، تابعة لموضوعاتها.

وهناك بعض الموضوعات جعل الشارع لها بخصوصها حكماً، مثل (الأربعة عشر) و(الشطرنج)، حيث جعل الحرمة عليهما من دون تقييد بالرهان وغيره، فهي محرمة سواء قومر بها أم لم يقامر بها.

أما لو كان هناك موضوع ولم يجعل له بخصوصه حكماً، كالورق في اللعب به، ففيه تفصيل:

فإن كان عرفاً من آلات القمار، أو روهن عليه فهو حرام، وإلا فلا بأس به.

فإن ما يتقامر به يطلق على شيئين:

1: ما لم يكن من آلاته ولكن روهن عليه، كما لو قامر بحجر أو محبس أي برهان، فهو حرام لذلك.

2: ما كان من آلاته عرفاً، وإن لعبه بلا رهان، فهو حرام أيضاً، لأنه عرفاً مما يتقامر به غالباً.

والشيخ الأنصاري (رحمه الله) في المكاسب المحرمة ذكرها بالتفصيل، قال:

(وكيف كان، فهنا مسائل أربع؛ لأنّ اللعب قد يكون بآلات القمار‌ مع الرهن، وقد يكون بدونه، والمغالبة بغير آلات القمار قد تكون مع العوض، وقد تكون بدونه.

فالأُولى: اللعب بآلات القمار مع الرهن. ولا إشكال في حرمته وحرمة العوض، والإجماع عليه محقّق، والأخبار به متواترة.

الثانية: اللعب بآلات القمار من دون رهن. وفي صدق القمار عليه نظر ... والأولى الاستدلال على ذلك بما تقدّم في رواية تحف العقول من أنّ ما يجي‌ء منه الفساد محضاً لا يجوز التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات. وفي تفسير القمي، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصٰابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (1) قال: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب» إلى أن قال: «وأمّا المَيسر فالنرد والشطرنج، وكلّ قمار ميسر» إلى أن قال: «وكلّ هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشي‌ء من هذا حرام محرّم» (2).

الثالثة: المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار، كالمراهنة على حمل الحجر الثقيل وعلى المصارعة وعلى الطيور وعلى الطفرة، ونحو ذلك ممّا عدّوها في باب السبق والرماية من أفراد غير ما نصّ على جوازه. والظاهر الإلحاق بالقمار في الحرمة والفساد، بل صريح بعض أنّه قمار...

الرابعة: المغالبة بغير عوض في غير ما نصّ على جواز المسابقة فيه...) (3).

سأل أحد الفضلاء: هناك ورق يلعب به الأطفال، فما حكمه؟

فأجاب سماحته (دام ظله): إذا لم يكن من آلات القمار عرفاً، أي لا يتقامر به غالباً، ولم يكن من المنصوص على حرمته كالأربعة عشر والشطرنج، ولم يلعب برهان، فلا بأس به.

فإن ما ورد في الأدلة لفظه، كالشطرنج فمقتضاه الحرمة مطلقاً وإن لم يكن برهان.

من هنا ربما يختلف غير المنصوص في زمان دون زمان، وفي مكان دون مكان.

 

(الربا في المعدود)

ومثله ما قاله الفقهاء في البيع الربوي وأنه لا يشمل المعدود.

أما الربا القرضي فهو حرام مطلقاً سواء في المكيل أو الموزون أو المعدود.

ولكن الربا في البيع فهو في غير المعدود، أي إذا كان من المكيل والموزون، مثلاً لا يجوز بيع السكر بالقند (السكر المضغوط) مع التفاضل.

وكذا لا يجوز بيع الذهب المصاغ بذهب أزيد منه أي بالتفاضل.

ومع اختلاف الأعراف في الأمصار، معدوداً وغيره، لا ربا فيما كان عندهم معدوداً، كالبيض في العراق.

وكذلك في الأزمان، كالبرتقال حيث كان يباع سابقاً في كربلاء المقدسة بالعدد.

إذن القاعدة أن الحكم تابع لموضوعه.

 

(الشيخ المريض)

سأل أحد الفضلاء: بالنسبة إلى المسألة المطروحة ليلة أمس، لا تعارض بين دليل الفدية ودليل عدمها، لأنه يشترط في التعارض وحدة الموضوع والمتعلق، وهنا الموضوع واحد وهو المكلف، لكن المتعلق يختلف، من هنا لابد من القول بلزوم الفدية لدليها.

فأجاب سماحته (دام ظله): هذا شرط في التعارض العقلي الدقي، وليس شرطاً في التعارض العرفي.

وفي الرواية: (واحد يأمرنا والآخر ينهانا) فالمعيار في التنافي عرفي.

عن سماعة بن مهران، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، قُلْتُ: يَرِدُ عَلَيْنَا حَدِيثَانِ، وَاحِدٌ يَأْمُرُنَا بِالأَخْذِ بِهِ وَالآخَرُ يَنْهَانَا عَنْهُ، قَالَ: (لا تَعْمَلْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى تَلْقَى صَاحِبَكَ فَتَسْأَلَهُ)، قُلْتُ: لا بُدَّ أَنْ نَعْمَلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَالَ (خُذْ بِمَا فِيهِ خِلافُ الْعَامَّةِ) (4).

فالشيخ المريض مصداق للأمر بالفدية، ولعدم لزوم الفدية وهذا تعارض عرفي وإن لم يكن بينهما تناف دقي.

سأل أحد الفضلاء: في الرواية المذكورة (يأمرنا وينهانا) وليس في الفدية أمر ونهي؟

فأجاب سماحته (دام ظله): ما ذكر من باب المصداق، وإلا فالتعارض العرفي يشمل الأمر وعدمه أيضا.

سأل أحد الفضلاء: إذا كان هناك قيد فهو قد يرجع إلى الموضوع وقد يرجع إلى الحكم وقد يرجع إلى المتعلق، ومع الاختلاف لا تعارض.

فأجاب سماحته (دام ظله): ذكرنا أن التنافي العرفي يحصل في اجتماع حكمين في مصداق واحد وإن تعددت العناوين، كما لو صلى في الغصب، وإن كانت الاعتبارات مختلفة دقاً، وكذلك ما نحن فيه، فهذا الشخص هو شيخ وهو مريض، فهل عليه الفدية أم لا؟

قال أحد الفضلاء: في اجتماع الأمر والنهي يلزم تعدد العناوين، ولكن في ما نحن فيه هناك موضوعان وليس موضوعاً واحداً، فلا تضارب.

فأجاب سماحته (دام ظله): ليس ما نحن فيه من الموضوعين عرفاً، بل مصداق واحد حصل فيه التنافي.

ثم إن الشيخ الأعظم (رحمه الله) فسر التعارض في الرسائل بقوله: (هو تنافي مدلولي الدليلين)، وهذا يصدق على المسألة.

ومع التعارض إن لم نقل بالتساقط ولا الترجيح، وكان الشك فالأصل البراءة وعدم الفدية.

كرر أحد الفضلاء ما قاله بقوله: في مثال الشيخ المريض لا وحدة للمتعلق؟

فأجاب سماحته (دام ظله): وحدة لمتعلق من حيث المفهوم أم المصداق؟

فقال: من حيث المصداق.

فأجاب سماحته (دام ظله): هنا المتعلق واحد من حيث المصداق.

وقال أحد الفضلاء: في مسألة اجتماع الأمر والنهي قالوا إنه لابد من ملاحظة أن الاتحاد تركيبي أو انضمامي، فإن كان تركيبياً فهو من باب التعارض، وإن كان انضمامياً فهو من باب التزاحم. وقالوا: إن التركيب الاتحادي يتصور في السجدة فقط على أرض مغصوبة، حيث الاعتماد عليها بجبهته.

فأجاب سماحته (دام ظله): مسألة التنافي ليست عقلية بل عرفية، ومثالنا مصداق اجتمع فيه الأمر بالفدية والحكم بعدم لزومها.

نعم في التناقض العقلي والدقي لابد من الاتحاد في هذه الثمانية، كما يقول الشاعر:

در تناقض هشت وحدت شرط دان

وحدت موضوع ومحمول ومكان

وحدت شرط واضافه جزء وكل

قوه وفعل است در آخر زمان.

أي يشترط في التناقض الاتحاد في ثمانية: الاتحاد في الموضوع، والمحمول، والمكان، والشرط، والإضافة، والجزء والكل، والقوة والفعل، والزمان.

 

(نقل الأجساد إلى المشاهد المشرفة)

سألني أحد المؤمنين أنه في إحدى البلاد الغربية إذا أرادوا نقل جثمان الميت من بلد إلى آخر كما لو أراد شخص نقل ميته إلى البلاد المشرفة، لابد قانوناً أن يكيس الميت بكيس نايلون أولاً، ثم يكفن، فما هو الحكم؟

فقال أحد الفضلاء: لا بأس به، فإنه يصدق التكفين وإن كان على النايلون، إذا لا دليل على لزوم أن يباشر الكفن بشرة الميت.

وقال أحد الفضلاء: أحياناً لمرض وما أشبه يكيس الميت بنايلون.

فقال سماحته (دام ظله): نعم في الاضطرار لا إشكال، والبحث في المسألة المذكورة اختياراً.

وقال أحد الفضلاء: الأكفان الثلاثة هي بنحو اللابشرط وليست بشرط لا، فلا مانع من ذلك، من هنا نرى بعض القطع المستحبة منها لا تكون على بشرة الميت مباشرة.

فقال سماحته (دام ظله): نعم لابد من صدق التكفين، أما المباشرة للبشرة فلم يرد اشتراطها.

إذن يبدو أنه يجوز النقل وإن استلزم تكييس الجثمان بالنايلون أولاً ثم تكفينه بالقطع الثلاث.

 

(نقل الجثة وإخراج الأمعاء والأحشاء)

ثم قال سماحته (دام ظله): سألني أحد المؤمنين أنه في بلاده لا تقبل الحكومة بنقل الجثة إلى بلد آخر إلا بإخراج أحشائه وأمعائه، فهل يجوز النقل إلى البلاد المقدسة كالنجف وكربلاء حينئذ؟

فقال بعض الفضلاء: لا يجوز ذلك، لأنه هتك للميت، وتمثيل به، فإن التمثيل اقتضائي ونقله غير اقتضائي، والاقتضائي مقدم على اللا اقتضائي.

فقال سماحته (دام ظله): يرى البعض أن هذا من التزاحم، لأن نقله إلى كربلاء المقدسة مثلاً نوع احترام للميت، فليس هتكاً بهذا الغرض، ثم هل مثل لإخراج الأمعاء لغرض أهم ودفنها بالشروط الشرعية، يسمى تمثيلاً بالميت؟

سأل أحد الفضلاء: هذا حرام، فإن حرمته ميتاً كحرمته حياً.

فأجاب سماحته (دام ظله): الحرمة إذا لم يكن هناك مزاحم أهم.

وقال أحد الفضلاء: ربما يمكن فرض المسألة في ما لو أوصى بنقله حيث يكون العمل بالوصية واجباً، فيقع التزاحم بين اقتضائيين.

فأجاب سماحته (دام ظله): الوصية لا يمكنها أن تجعل الحرام حلالاً، بناء على حرمته حتى في الفرض المذكور وأنه هتك أو تمثيل.

 

(كلام كاشف الغطاء في نقل الجثمان)

ثم قال سماحته (دامت بركاته):

صاحب الجواهر (رحمه الله) ينقل في باب نقل الميت إلى العتبات المقدسة عن أستاذه كاشف الغطاء (قدس سره):

إن نقل الميت إلى العتبات لها من الأهمية ما لو استلزم تقطيع الميت إربا إربا، جاز ذلك.

فإن في زمن كاشف الغطاء (رحمه الله) وهو كان يعيش قبل أكثر من مائتي سنة (5)، لم تكن هذه السيارات والطائرات الحديثة، فمن كان يموت في الهند ويراد نقله إلى كربلاء المقدسة، كان يستغرق ذلك ربما ستة أشهر، والجثة لا تبقى هذه الفترة الطويلة، مضافاً إلى أن بعض الحكومات لم تكن تقبل بنقل الميت، فكان ربما يستلزم الأمر تقطيع الميت قطعاً قطعاً ولف القطع في مجموعات من الأقمشة حتى لا يخرج ريحها ويمكن نقلها، ولا يستكشفها حكومات الجور للمنع عنها.

قالوا: الدليل على جواز ذلك أن الدفن بجوار المعصومين (عليهم السلام) فيه نفع أبدي، ولكن التقطيع فهو هتك وقتي، فجاز للأهم.

وهذا نص كلام الجواهر في رجحان النقل إلى المشاهد المشرفة وما في حكمها:

(وكيف كان، فمما ذكرنا ينقدح وجه ما ذكره الشهيد، وتبعه عليه بعض من تأخر عنه من إلحاق نحو المقبرة التي فيها قوم صالحون بمشاهد الأئمة (عليهم السلام) في رجحان النقل إليها لتناله بركتهم، وكذا الشيخ في المبسوط قال: «ويستحب أن يدفن الميت في أشرف البقاع، فإن كان بمكة فبمقبرتها، وكذلك المدينة والمسجد الأقصى ومشاهد الأئمة (عليهم السلام)، وكذا كل مقبرة تذكر بخير من شهداء وصلحاء وغيرهم» انتهى. فظهر من ذلك كله أنه لا جهة للإشكال في أصل رجحان ذلك رجاءً للنفع و دفعاً للضرر، وخبر دعائم الإسلام مع الطعن في مصنفه قد عرفت حمله على الكراهة، بل كاد يكون إيصاء الميت بذلك عليه كاللازم، نعم قد يستثنى من الرجحان المذكور الشهيد، لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بدفنهم في مصارعهم عند إرادة أصحابه نقلهم، ومن هنا نص عليه في الذكرى بل في الدروس أنه المشهور، إنما الإشكال في بعض أفراد النقل، منها ما هو مستعمل في مثل زماننا من الأمكنة البعيدة جداً بحيث لا يجي‌ء الميت إلا متغيراً كمال التغيير حتى يكاد لا يستطيع أن يقرب إليه أحد، وربما تقطعت أوصاله وجرى قيحه ونحو ذلك، ولم أعثر على من نص على جواز حمله، إلا أنه كان يفتي به الأستاذ المعتبر الشيخ جعفر تغمده الله برحمته، حتى ترقى إلى أنه قال: "إنه لو توقف نقله على تقطيعه إرباً إرباً جاز، ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له و دفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحي" (6).

سأل أحد الفضلاء: إنه لا دليل على رجحان النقل إلى المشاهد المشرفة؟

فأجاب سماحته (دام ظله): المتركز عند المتشرعة هو حسن نقله إلى تلك الأماكن المقدسة لتناله بركتهم ورجاءً للنفع العظيم الأخروي ودفعا للضر كذلك، والمرتكز دليل عقلائي يعتمد عليه، فلا نحتاج إلى نص لفظي في كل مسألة.

قال أحد الفضلاء: هناك ملائكة نقالة تنقل بعض الأجساد من وإلى المشاهد المشرفة، فلا حاجة إلى النقل إليها، ومع النقل إليها لا ضمان في البقاء فربما تنقل منها؟

فأجاب سماحته (دام ظله): الكلام في تكليفنا وليس في تكليف الملائكة.

سأل أحد الفضلاء: لا يطاع الله من حيث يعصى، فكيف يقطع ويمثل ويهتك بالجثمان وفيه الدية وهو حرام.

فأجاب سماحته (دام ظله): نفرض المسألة في مثل إخراج الأحشاء وليس التقطيع اربا إربا كما قال المرحوم كاشف الغطاء. فإن النقل إلى المشاهد الشريفة راجح مع استلزامه لبعض الهتك او التمثيل إن صح التعبير.

سأل أحد الفضلاء: لا يمكن ترك الواجب لأجل العمل بالمستحب، ومع تقطيعه لا يصدق عليه أنه كفنه بالأكفان الثلاث، فكيف يجوز ذلك؟

فأجاب سماحته (دام ظله): يكون من باب تبدل الموضوع، فمثلاً، لا سمح الله إذا تقطع شخص في انفجار إرهابي بحيث صار مجموعة من القطع المتناثرة، فهذا لا يحتاج إلى التكفين.

 

(قصة المقدّس البغدادي مع كاشف الغطاء)

المرحوم سيد محسن الأعرجي (7) والذي يعبر عنه الشيخ الأعظم الأنصاري وصاحب الجواهر وغيرهما (رحمهم الله) بالمقدس البغدادي أو المحقق البغدادي، هو من أعاظم المحققين، وله ثلاثة كتب مفيدة جداً، في الرجال والأصول والفقه.

فقهه: (الوسائل) في عدة مجلدات.

وأصوله: (المحصول في علم الأصول).

وله أيضاً (الوافي في شرح الوافية) و(شرح مقدمات الحدائق) وغيرها.

وكان الأعرجي معاصراً لكاشف الغطاء ومن تلامذة الوحيد البهبهاني (رحمهم الله جميعا).

يقال إن الأعرجي لما سمع بفتوى كاشف الغطاء خرج من الكاظمية المقدسة إلى النجف الأشرف ليسأله عن دليله، ولكنه لم يقتنع السيد بكلام الشيخ.

مع كل ذلك المرحوم كاشف الغطاء وهو من أعاظم فقهائنا وكان المرجع الأعلى في زمانه كان يفتي بجواز النقل حتى مع التقطيع إرباً إرباً.

سأل أحد الفضلاء: ما هو دليل على نقل الجثمان؟

فأجاب سماحته (دام ظله): جواز النقل بل رجحانه متسالم عليه، انظروا العروة الوثقى وتعليقاتها، حيث عبر بعض الفقهاء عنه بالمستحب.

قال السيد (رحمه الله) في مكروهات الدفن: (الحادي والعشرون: نقل الميت من بلد موته إلى آخر إلا إلى المشاهد المشرفة والأماكن المقدسة والمواضع المحترمة كالنقل عن عرفات إلى مكة والنقل إلى النجف فإن الدفن فيه يدفع عذاب القبر وسؤال الملكين وإلى كربلاء والكاظمية وسائر قبور الأئمة (عليهم السلام) بل إلى مقابر العلماء والصلحاء، بل لا يبعد استحباب النقل من بعض المشاهد إلى آخر لبعض المرجحات الشرعية، والظاهر عدم الفرق في جواز النقل بين كونه قبل الدفن أو بعده، ومن قال بحرمة الثاني مراده ما إذا استلزم النبش وإلا فلو فرض خروج الميت عن قبره بعد دفنه بسبب من سبع أو ظالم أو صبي أو نحو ذلك لا مانع من جواز نقله إلى المشاهد مثلا، ثم لا يبعد جواز النقل إلى المشاهد المشرفة وإن استلزم فساد الميت إذا لم يوجب أذية المسلمين فإن من تمسك بهم فاز ومن أتاهم فقد نجا ومن لجأ إليهم أمن ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله تعالى والمتوسل بهم غير خائب صلوات الله عليهم أجمعين‌) (8).

قال أحد الفضلاء: لا يجوز النقل مع الهتك، فإن (حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً) (9).

فأجاب سماحته (دام ظله): موضوع الحرمة والهتك وما أشبه عرفي، ثم المزاحم الأهم يقدم عليه.

وفي نقل (صافي صفا) (10) من اليمن إلى النجف آنذاك والمسافة ربما تكون ثلاثة آلاف كيلومتر، وتطول عدة أشهر، ألا يحصل به الهتك والتمثيل وما أشبه؟

فمن مجموع القرائن والشواهد يبدو أنه خارج عن الهتك والتمثيل تخصصاً أو تخصيصاً.

سأل أحد الفضلاء: الارتكاز دليل لبي، فلا بد أن يؤخذ بالقدر المتيقن منه، وهو ما لم يوجب الهتك والتمثيل وما أشبه.

فأجاب سماحته (دام ظله): مع إحراز الارتكاز وهو دليل عقلائي لا يدع مجالاً للشك، والأخذ بالقدر المتيقن يعني في ظرف الشك، ومفروض المسألة ما لو لم يكن شك في البين، فإن الارتكاز ثابت في نقل الجثمان حتى من البلاد البعيدة مما يستغرق وقتا طويلا وهو عادة يستلزم ما قيل من الهتك والتمثيل وما أشبه.

سأل أحد الفضلاء: لا يمكن قياس إخراج أمعاء وأحشاء الجثة لنقله، بنبش قبره ونقل جثمانه إلى المشاهد المشرفة، لأن حرمة النبش لا نص عليها، اي لا دليل لفظي فيها، وإنما دليله الإجماع فقط، من هنا قالوا يجوز بعد دفنه بعدة أشهر أن ينبش القبر وينقل الميت.

فأجاب سماحته (دام ظله): لا نريد القياس، بل الملاك وإحراز الأهمية.

فالظاهر أن نقل الميت للمشاهد المشرفة مرتكز جوازه بل رجحانه، حتى إن استلزم ما يقال من الهتك وما أشبه، فإن نقل الجثمان كان يتأخر لفترة طويلة ربما تصل لعدة أشهر قديماً كما بينا.

سأل أحد الفضلاء: النقل للجثمان كان مع ملاحظة ما يوجب الهتك الأقل، فإنهم كانوا يجعلونه في تابوت مغلق من حديد أو خشب أو ما أشبه ثم ينقل، أما تقطيع الميت فهو من المثلة التي لا تجوز؟

فأجاب سماحته (دام ظله): من قال بجواز النقل مع التقطيع ككاشف الغطاء، أو دونه كسائر الفقهاء، يرونه أهم، فلا يكون إهانة له أو مثلة موضوعاً أو حكماً، تخصصاً أو تخصيصاً، والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة: 90.
(2) وسائل الشيعة: ج17 ص321 ب102 ح22657.
(3) المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري: ج1 ص371 _ 380.
(4) وسائل الشيعة: ج27 ص122 ب9 ح33375.
(5) الفقيه الأكبر الشيخ جعفر ابن الشيخ خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي القناقي الجناحي النجفي. والمالكي نسبة إلى بني مالك، وهم المعروفون اليوم في العراق بآل عليّ، يقال إنّ نسبهم يرجع إلى مالك الأشتر النخعي، توفي عام 1228 هـ.
(6) جواهر الكلام: ج4 ص348.
(7) هو السيد محسن بن السيد حسن الحسيني الأعرجي الكاظمي البغدادي، ت 1227 ه وقيل 1240هـ.
(8) العروة الوثقى: ج1 ص447.
(9) تهذيب الأحكام: ج1 ص419 ب21 ح43.
(10) اسمه أثيب اليماني المعروف بصافي صفا، المتوفى سنة 38 هـ، وهو رجل مؤمن صالح من أهل اليمن، دفنه أمير المؤمنين (عليه السلام) أيام خلافته في الكوفة، حيث كان الإمام (عليه السلام) إذا أراد الخلوة بنفسه كان يأتي إلى طرف الغري، وفي يوم رأى رجلاً مقبلاً من جهة البرية، راكبا ناقة وأمامه جنازة، فسأله: من أين، قال: من اليمن، قال: وما هذه الجنازة التي معك، قال: جنازة أبي لأدفنه في هذه الأرض، قال: لم لا دفنته في أرضكم، قال: هو أوصى بذلك، وقال: إنه يدفن هناك رجل يدعى في شفاعته مثل ربيعة ومضر، فقال الإمام (عليه السلام): أتعرف هذا الرجل، قال: لا، قال: أنا والله ذلك الرجل.