تقرير الجلسات العلمية لسماحة المرجع الشيرازي دام ظله

الليلة الثالثة عشرة ـ شهر رمضان العظيم 1436 للهجرة

تقرير: الشيخ علي الفدائي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

 

(النهي عن المنكر وضمان المتلف)

سأل أحد الفضلاء: إذا توقف النهي عن المنكر على إتلاف مال، كما إذا أراد إتلاف الخمر فتوقف على إتلاف الآنية أو الكوز، فهل ضمان للظرف؟

فأجاب سماحته (دام ظله): إذا كان النهي عن المنكر يستلزم عرفاً إتلاف ذلك المال، أي كان لازمه العرفي، ولم يثبت أن حفظه أهم من النهي عن المنكر في باب التزاحم، فلعدم الضمان وجه.

فإن ما نحن فيه من صغريات التزاحم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وإتلاف مال الغير بلا رضاه حرام، وكل واحد منهما فيه الملاك، فمع إحراز الأهمية في جانب فهو، وإلا يكون مثل سائر موارد التزاحم.

ومثّل الفقهاء لذلك بإنقاذ الغريق والتصرف في حبل الغير، فالأول أهم شرعاً من الثاني وإن استلزم إتلافه، فهل يضمن ذلك؟

قال بعض: نعم.

وقال بعض: الضمان على بيت المال، لأنه معد لمصالح المسلمين.

وقال بعض: ومنهم المرحوم الميرزا عبد الهادي الشيرازي (رضوان الله عليه)، أنقل عنه شفهاً، قال: بالمقدار الذي هو لازم عرفي لذلك لا يضمن، لأهمية أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ورد أن بهما تُقام الفرائض، وما أشبه.

قال أبو جعفر (عليه السلام) في حديث: «كَمَا رَفَضُوا أَسْمَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفَهَا إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِض» (1).

فيرجح ملاك وجوب الأمر والنهي على ملاك حرمة الغصب.

فإذا قال المولى: يجب عليك إتلاف الحرام، وكان لازمه العرفي إتلاف آنيته، فهو إذن بإتلاف الآنية بلا ضمان، لظهور الأمر والنهي في مقدار اللوازم العرفية، فلا يقال بأن الضمان وضعي ولا ينافي التكليفي.

ويبدو أن هذا الكلام جيد.

 

(أقوائية أدلة الضمان)

قال أحد الفضلاء من الحضور: ربما يقال إن أدلة الضمان أقوى من أدلة الأمر والنهي.

فأجاب سماحته (دام ظله): لا يعلم ذلك، بل لابد من الظهور العرفي.

وسأل أحد الفضلاء: بناءً على ما ذكرتم من عدم الضمان في اللوازم العرفية، فلماذا أفتى الفقهاء بضمان الطبيب؟

فأجاب سماحته (دام ظله): للدليل الخاص في الطبيب.

فإن الطبيب أو الختان وإن كان حاذقاً فهو ضامن، لما ذكر، إلا إذا أخذ البراءة قبل ذلك، علماً بأن التبري أيضاً خلاف أصل الضمان في مورده، لكنه خرج بالدليل الخاص.

سأل أحد الفضلاء: الفقهاء أفتوا بالضمان في من ألقى مال غيره في البحر إذا توقف إنقاذ السفينة من الغرق عليه، فهناك أمر وضمان؟

فأجاب سماحته (دام ظله): المسألة فيها خلاف.

وبشكل عام أدلة الضمان فيها عموم وإطلاق، وهناك عمومات في أدلة الأمر والنهي، فمع إحراز الأهمية في أحدهما فهو المقدم، وإلا كان ضامناً لعدم المنافاة بين الحكمين الوضعي والتكليفي.

لكن الفقهاء قالوا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتأكيد الكبير عليهما أهم من أدلة الضمان فتخصص بها (2).

سأل أحد الفضلاء: عند مراجعة أدلة الضمان يمكن استفادة أقوائيتها، لقوة إطلاقها وعمومها، ودلالتها بالمطابقة على الضمان، وفي المقابل دلالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عدم الضمان ليس بالمدلول المطابقي أو التضمني، بل لازمه ذلك، فحسب القاعدة لابد من تقديم أدلة الضمان فإنها بالمطابقة.

فأجاب سماحته (دام ظله): العرف يرى التلازم بين الأمر والنهي وعدم الضمان، مع إحراز أهمية الأمر والنهي، وحينئذ لا يفرق بين المدلول المطابقي والالتزامي.

وبالنتيجة بين الدليلين عموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، فمع أهمية أحدهما هو المقدم.

 

(أكل المخمصة)

قال أحد الفضلاء من الحضور: بناءً على عدم الضمان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلماذا تقولون بالضمان في أكل المخمصة؟

فأجاب سماحته (دام ظله): ربما يقال حتى في أكل المخمصة بعدمه فتأمل، علماً بأننا الآن في مقام البحث العلمي، أما الفتوى فهي بحاجة إلى مراجعة وتدقيق أكثر.

سأل أحد الفضلاء: الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً وهو يوجب الضمان، فإذا كان التصرف بأمر الشارع فلا عدوان ولا ضمان؟

فأجاب سماحته (دام ظله): ما المقصود بالعدوان، إن كان يراد به ما هو خلاف رضا صاحبه فهو كذلك، وإن قلتم بأن المالك الحقيقي وهو الله عزّ وجل أجاز له ذلك، ودليله حاكم على دليل المالك العرفي فلا عدوان، ولكن تشمله أدلة الضمان الأخرى، منها (على اليد) حيث إطلاقه، وعدم تقييده بالعدوان.

وهذه مسألة فيها خلاف من زمن الشيخ (رحمه الله) إلى يومنا هذا، حيث الأمر والنهي من جانب، وأدلة الضمان من جانب آخر.

فالأصل الضمان، وهو حكم وضعي لا يتنافى مع الحكم التكليفي، إلا إذا رأى العرف بالملازمة عدم الضمان مع الأمر والنهي.

 

(القول بالتفصيل)

قال أحد الفضلاء من الحضور: ربما يمكن القول بالتفصيل بين ما هو مثل أكل المخمصة حيث فيه الانتفاع للمتصرف، وبين غيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما لا يعود بالنفع إلى المتصرف، ففي الأول الضمان دون الثاني.

فأجاب سماحته (دام ظله): لا دليل على هذا التفصيل، ثم إنه ينتقض ذلك بضمان الطبيب، حيث لا ترجع إليه الفائدة وأفتى الفقهاء بضمانه.

فقيل: انتفاع الطبيب هو أخذه الأجرة.

فقال سماحته (دام ظله): ما ذا لو كان يعمل مجاناً، وكم رأيت من الأطباء في الزمن السابق يعمل بلا عوض، قربة إلى الله تعالى، من دون أخذ أو تعيين أجرة، نعم كان الناس يعطونه ما شاؤوا بعنوان الهدية.

قال أحد الفضلاء: ربما يفصل بين مثل الصناعات التوصلية حيث يتوقف على أخذ الأجرة، وبين الواجبات التعبدية حيث لا أجرة فيها، فنقول فيما نحن فيه بالتفصيل، فأكل المخمصة بمثابة التوصليات ففيها الضمان، والأمر بالمعروف من التعبديات فلا ضمان فيما يتلف بسببه.

فأجاب سماحته (دام ظله): هذه استحسانات لا دليل عليها، فضمان آكل المخمصة والطبيب على حسب القاعدة، فإن (من أتلف مال الغير فهو له ضامن)، وإن كان هذا الحديث بخصوصه في سنده بحث، لكن هناك أحاديث أخر تدل على الضمان.

والنتيجة أن الحكم بالضمان مسلّم، إلا ما خرج، فالقاعدة الأولية في الضمان تشمل حتى مورد الأمر والنهي، لكن قد يقال بخروج موردهما لأجل أهميتهما، ولما ذكرناه من الظهور العرفي في عدم الشمول لما هو لازم الأمر والنهي عرفاً.

وكان المرحوم الوالد (قدس سره) يفتي بالضمان حتى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يرى هذا التلازم المدعى.

 

(تأديب الطفل وضمانه)

سأل أحد الفضلاء عن تأديب الطفل وحكم ضمانه؟

فقال سماحته (دام ظله): التأديب وضمانه أيضاً من صغريات تلك الكبرى، ومع عدم إحراز الخروج يقال بالضمان.

فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «رُبَّمَا ضَرَبْتُ الْغُلامَ فِي بَعْضِ مَا يَحْرُمُ، فَقَالَ: وَكَمْ تَضْرِبُهُ، فَقُلْتُ: رُبَّمَا ضَرَبْتُهُ مِائَةً، فَقَالَ: مِائَةً مِائَةً!! فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: حَدَّ الزِّنَى! اتَّقِ اللَّهَ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَكَمْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَضْرِبَهُ، فَقَالَ: وَاحِداً، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَنِّي لا أَضْرِبُهُ إِلاّ وَاحِداً مَا تَرَكَ لِي شَيْئاً إِلاّ أَفْسَدَهُ، فَقَالَ: فَاثْنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا هُوَ هَلاكِي إِذاً، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُمَاكِسُهُ حَتَّى بَلَغَ خَمْسَةً، ثُمَّ غَضِبَ فَقَالَ: يَا إِسْحَاقُ إِنْ كُنْتَ تَدْرِي حَدَّ مَا أَجْرَمَ فَأَقِمِ الْحَدَّ فِيهِ وَلا تَعَدَّ حُدُودَ اللَّه» (3).

ومن هنا قال بعض الفقهاء بالتحديد في التأديب، وعدم حقه في التأديب أكثر من المحدد حتى وإن اقتضى التأديبُ الأكثر، وكان التأديب لا يتحقق بالتحديد المذكور.

إذن لابد من التمسك بظواهر الأدلة.

 

(غلو ومبالغات في بعض الروايات)

سأل أحد الفضلاء من الحضور: ورد في بعض الروايات ما ظاهره الغلو أو المبالغة، مثل من عمل كذا فله الآلاف من الحور وما أشبه؟

فأجاب سماحته (دام ظله): الملاكات في عالم الآخرة تختلف عما نحن فيه في الدنيا، فلا يمكن رد الشيء بمجرد استغرابه، ولأنه لا يتناسب مع الإنسان في عيشه في هذه الدنيا، فإن الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما في الروايات(4).

ومن جانب آخر فهذه الروايات على أقسام من حيث الاعتبار والسند وما أشبه، فما كان قد ورد عن المعصوم (عليه السلام) حتماً فلا شك في صحته، وما كان بالدليل المعتبر لزم التسليم به، نعم قد لا نفهم المراد منه فلا بد من رد علمه إلى أهله (عليهم السلام).

أما ما لم يكن معتبراً فالأمر فيه سهل.

مثلاً في بعض الروايات المرسلة: من صلى كذا فله أجر جميع الأنبياء والمرسلين، فعلى فرض صحتها يكون المراد بها شيئاً آخر، كالمعنى الكنائي وما أشبه، وإذا لم نفهم المعنى فيرد علمها إلى أهلها (صلوات الله عليهم).

والمثال العرفي للتقريب ما إذا قال الطيبب الحاذق الثقة بوصفة علاج، فإذا لم يفهم المريض الوصفة لا يحق له تخطئة الطبيب أو حمله على ما لا يريده الطبيب.

قال أحد الفضلاء: مثل هذه المثوبات الكثيرة متواترة معنىً، وإن لم تكن متواتره في مصاديقها؟

فقال سماحته (دام ظله): نعم إذا ثبت ذلك ولم نفهم معناها، فعلمها إلى أهلها يرد.

ومثل ذلك، ما ورد من الصلوات المستحبة التي لا يسع الوقت لأدائها، فإن كان السند معتبراً ولم نفهم الرواية، يرد علمها الى أهلها (عليهم السلام).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: «مَنْ بَاتَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِأَرْضِ كَرْبَلاءَ فَقَرَأَ أَلْفَ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَيَسْتَغْفِرُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَيَحْمَدُ اللَّهَ أَلْفَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَلْفَ مَرَّةٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَسُلْطَانٍ وَ يَكْتُبَانِ لَهُ حَسَنَاتِهِ وَلَا تُكْتَبُ لَهُ سَيِّئَةٌ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ مَعَهُ» (5).

فقراءة ألف آية الكرسي في كل ركعة تستوعب جميع الليل وتزيد عليه.

 

(الأنبياء والاستغفار)

سأل أحد الفضلاء: ما ذا تقولون في مثل قوله تعالى: (استغفر لذنبك وللمؤمنين) (6).

وقوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر) (7).

وقوله سبحانه: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) (8).

وكيف يجتمع ذلك مع عصمة الأنبياء (عليهم السلام).

فأجاب سماحته (دام ظله):

في الرواية إنما نزل القرآن على (إياك أعني فاسمعي يا جارة)، أي ليس المقصود المعنى الحقيقي، بل الكنائي.

كما في قوله تعالى مخاطباً لنبيه (صلى الله عليه وآله) والمعنى للخلق: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (9).

وكما قال عزوجل: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (10).

روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في باب عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في حديث:

(فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): هَذَا مِمَّا نَزَلَ بِإِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةِ خَاطَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) وَأَرَادَ بِهِ أُمَّتَهُ) (11).

حيث كانوا يأتون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويستأذنونه في ترك الجهاد، وكان (صلى الله عليه وآله) يأذن لهم، ومن الواضح أنه إذا عمت هذه الحالة تعطل الجهاد، فنزلت الآية لبيان أهمية الجهاد وعدم جواز التواني فيها.

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان لمقامه وقيادته ومكانته لا يريد أن يرد شخصاً ويقول له لا.

فالإنسان المحترم ذو المكانة العالية ليس من شأنه أن يقول لا.

يقول الفرزدق في قصيدته الشهيرة في فضل الإمام السجاد (عليه السلام):

ما قال لا قط إلا في تشهده \\ لولا التشهد كانت لاؤه نعم

إذن (لم أذنت) للإشفاق وليس للنهي، ولا عتاباً لشخصه الكريم، بل هو نهي وعتاب لمن كان يستأذنه عن الحرب.

وهذه طريقة عقلائية بلاغية، أحياناً يخاطب الإنسان ولده ليتعلم غيره.

قال أحد الفضلاء: في الرواية إنه سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كيف يمجد القرآن الكريم الأنبياء (عليهم السلام) من جهة وربما عاتبهم من جهة أخرى، فقال (عليه السلام) ما مضمونه: )حتى لا يقول الناس بألوهيتهم).

 

(الموت السريري)

سأل أحد الفضلاء عما يسمى بالموت السريري، قال هناك بعض من يرقد في المستشفيات مات قلبه وبقي مخه أو بالعكس، فهو يتنفس عبر الأجهزة الطبية، فإذا فصلت عنه مات بالكامل، علماً بأن تكاليف إبقائه كبيرة جداً، والمشفى لا يتحمل النفقة، فهل يجوز قطع تلك الأجهزة؟

فأجاب سماحته (دام ظله): يمكن الرجوع إلى غيري في هذه المسألة ممن هو جامع للشرائط، فإني لا أتحمل الفتوى بذلك، ويكفينا ما تحملناه في سائر الأحكام، فكم يمكن للإنسان أن يتحمل الفتاوى.

 

(التضخم والتنزل)

سأل أحد الفضلاء: إذا ارتفع السعر في التضخم فهل فيه الخمس؟

فأجاب سماحته (دام ظله): هذه المسألة سارية في العديد من الأبواب الفقهية، كالبيع والمهر والقرض والوقف والخمس وغيرها.

وبشكل عام لابد من ملاحظة مسألة التضخم والتنزل ثم التصالح في ذلك بين الطرفين، فمن كان مهرها قبل سبعين سنة عشرين ديناراً عراقياً مثلاً، فهل يعقل أن نقول بأن العشرين هو مهرها الآن، والعشرون في يومنا لا يعطى به حتى نصف قرص الخبز!.

الظاهر أن العشرين تقييدي وليس تعليلياً، فالعشرون بما كان يُشترى به مثلاً كذا من الثياب والشياه والأثاث جعل مهراً، أي بهذا القيد.

فعشرون ديناراً بقيد القيمة السوقية لها هو المهر، ومن هنا جعلوا العشرين لا أقل ولا أكثر منه.

نعم هناك مقدار متعارف من التضخم والتنزل في جميع الأعصار والأمصار عادة فهو عادي، كما ورد في رواية الحج بعشرين ديناراً، حيث سأل الراوي أنه لا يكفي ذلك للحج فلم يغير الإمام المبلغ بل أمر بجعل عدة حجج حجة أو حجتين وهكذا.

قَالَ: وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ (عليه السلام): إِنَّ مَوْلاكَ عَلِيَّ بْنَ مَهْزِيَارَ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ ضَيْعَةٍ صَيَّرَ رُبُعَهَا لَكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ حَجَّةً إِلَى عِشْرِينَ دِينَاراً، وَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ طَرِيقُ الْبَصْرَةِ فَتَضَاعَفَ الْمُؤَنُ عَلَى النَّاسِ فَلَيْسَ يَكْتَفُونَ بِعِشْرِينَ دِينَاراً، وَكَذَلِكَ أَوْصَى عِدَّةٌ مِنْ مَوَالِيكَ فِي حِجَجِهِمْ، فَكَتَبَ (عليه السلام) يُجْعَلُ ثَلاثُ حِجَجٍ حَجَّتَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (12).

وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُصَيْنِيُّ أَنَّ ابْنَ عَمِّي أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَاراً فِي كُلِّ سَنَةٍ وَلَيْسَ يَكْفِي، مَا تَأْمُرُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ (عليه السلام): يَجْعَلُ حَجَّتَيْنِ فِي حَجَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَلِكَ (13).

فهذا المقدار الطبيعي لا يغير شيئاً، ومقتضى تقرير المعصوم (عليه السلام) أن الملاك في مثله ما عينه في المهر وغيره كالوصية وما أشبه.

أما مع التغيير الفاحش، فما هو الحكم؟

قبل عدة سنوات جاؤوا إليّ بوصية قديمة من مدينة مشهد، كانت مكتوبة على قماش، وفيها: إنه يوصي كل سنة أن يصرف من حاصل بستانه 11 توماناً يفطر به جمع من المؤمنين في كل ليلة من شهر رمضان، وكذلك لسحورهم، وما زاد من المبلغ يصرف في وجوه البر، يعني ستون مائدة رمضانية لجمع من الصائمين إفطاراً وسحراً.

ومن الواضح أن 11 توماناً كان على نحو القيد التقييدي أي المبلغ بقيد أنه يمكن الإطعام به حسب ما وصى.

ولكن في باب الخمس لا يلاحظ ذلك، لصدق الفائدة عرفاً.

بخلاف العقود، فإنها تابعة للقصود، والتنزل والتضخم خلاف القصد.

قال تعالى: (فأن لله خمسه) (14) ، وفي العرف يقال إن البضاعة غلت ولا يقال إن العملة نزلت، وهكذا يعبر بالغلاء حتى الخبراء، فهي زيادة وفائدة عرفاً.

فمن كان الصافي له أربعين مليوناً، والآن زادت القيمة فصارت خمسيناً، وإن كان الواقع نزول العملة، ولكن بما أن العرف يراها زيادة ففيها الخمس.

 

(بين القيد والداعي)

قال أحد الفضلاء: ما تفضلتم به في المهر إنما يكون إذا أحرزنا القيد التقييدي، وقد يكون ذلك من الداعي، وبما أن الأغراض مختلفة عند المتعاملين فهي تعد من الداعي.

فأجاب سماحته (دام ظله): إذا أحرزنا أنه داع أو أنه قيد فلا بحث، أما إذا شككنا فما هو الحكم؟

من جانب آخر ما الفرق بين الداعي (الحيث التعليلي) والشرط الضمني (الحيث التقييدي) إن صح التعبير.

 قال أحد الفضلاء: مما يؤيد أن المبلغ يبقى نفسه في المهر، أنهم عندما علموا بأن العملة في نزول، جعلوا المهر من الذهب.

فأجاب سماحته (دام ظله): ليس الكل يجعل المهر ذهباً، وربما يكون جعل الذهب لمنع المشاكل المحتملة في تعيين المهر فيما بعد، فلا دليل على ما ذكرتم.

كنت قبل عدة سنوات في زيارة لأحد المراجع الكبار (رضوان الله عليه) في بيته، فطرحت هذا البحث، وكان رأيه الأولي دفع نفس المهر حتى بعد مرور عشرات السنين من دون ملاحظة التضخم والتنزل، فباحثته في المسألة، فقال لي بعد أيام: منعتني عن الفتوى بذلك.

وكان يرى أن من يتزوج في مثل هذا الزمان في ارتكازه أن تقوم الزوجة بالطبخ والكنس والغسل وما هو متعارف من الأعمال البيتية، فهي شروط ضمنية.

فقلت لسماحته: ربما تكون هذه الأمور من الداعي وليست من الشروط الضمنية، فكيف تفرقون بينهما؟

فالشرط الضمني مثل شرط الصحة في البيع، فإذا ظهر البيض فاسداً كان له الفسخ.

والداعي مثل ما إذا اشترى طعاماً باعتبار ضيوفه، ولكن الضيوف لم يأتوا، أو خرجوا ولم يأكلوا، فلا يمكنه إرجاع الطعام.

مثال آخر هو من الداعي، ما إذا تزوج امرأة بمهر كبير وكان في نيته أن يعيش معها عشرات السنين، فماتت المرأة بعد يوم من الزواج، فتستحق المهر بكامله، ولا يقول أحد بأن هناك شرط ضمني بالتعايش معها لعشرات السنين فلا تستحق المهر الكامل.

فإرادته هنا من الداعي وليس من الشرط الضمني، ولكن إذا اشترى البيض وكان فاسداً، قالوا هذا من الشرط الضمني.

فما هو الفارق بينهما؟

 قال أحد الفضلاء: ربما يقال بأن الشرط الضمني بحاجة إلى التصريح أو التباني، وما ذكرتم من مثال الزوجة وموتها، فالموت خارج عن اختياره؟

ثم قال: وكيف تميزون أنتم بينهما؟

فأجاب سماحته (دام ظله): الاختيار وعدمه ليس فارقاً، وإلا فالبيض الفاسد أيضاً خارج عن إرادته وليس من الداعي بل من الشرط الضمني.

نعم الظهور العرفي العقلائي هو المايز بين الداعي والشرط الضمني، وربما يشك الإنسان فيهما لشكه في الظهور، فإن أوضح المفاهيم كالماء قد يشك الإنسان في بعض مصاديقه، كالمياه الزاجية والكبريتية.

وإذا كان الشك بين الداعي والضمني في الأموال في مثل المهر وما أشبه، فقد لا يمكن إجراء الأصول العملية كأصل البراءة، بل قال البعض بجريان القرعة، وقال البعض كالمرحوم السيد الأخ (أعلى الله درجاته) بجريان قاعدة العدل والإنصاف.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــ

(1) الكافي: ج5 ص55 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ح1.

(2) فإن مفاد أدلة الأمر والنهي عدم الضمان بالفهم العرفي، ومفاد أدلة (على اليد) وما أشبه الضمان، فيكون التزاحم ويقدم الأهم منهما.

(3) وسائل الشيعة: ج28 ص51 ب30 ح34190.

(4) الفقيه: ج1 ص295. التهذيب: ج6 ص22.

(5) وسائل الشيعة: ج14 ص471 ب52 ح19627.

(6) سورة محمد: 19.

(7) سورة الفتح: 2.

(8) سورة التوبة: 43.

(9) سورة الزمر: 65.

(10) سورة الطلاق: 1.

(11) بحار الأنوار: ج11 ص83.

(12) وسائل الشيعة: ج11 ص170 ب3 ح14548.

(13) الكافي: ج4 ص311.

(14) سورة الأنفال: 41.