![]() |
|||
الشاعر الأديب السيد محمد رضا القزويني في ذكريات مع الشهيد السيد الحسن الشيرازي
الحديث عن الذكريات شيِّقٌ لكل طبقات المجتمع لا سيما إذا كانت تستذكر صوراً جميلة وخواطر طيبة في ذاكرة المحدّث أو الكاتب وهي تختلف في التأثير على السامع والقارئ بمقدار أهمية الأحداث والشخصيات التي تدور حولها الذكريات. وحديثي عن السيد الشهيد له جوانب عديدة لا يسعها إلاّ كتاب ضخم لو أتيح لي أن اكتب أو سنحت فُرَصُ العُمر التي تمرّ سراعا وتخطف من كتب ومن لم يُدركْ أنّ يكتب ولكن (مالا يُدرَك كلُّه لا يُترك جُلُّه).
آل القزويني وآل الشيرازي: فعلاقتي بالسيد الشهيد بدأت تتميّز عن علاقة الاسرتين الوثيقه (آل القزويني وآل الشيرازي) بالارتباط الادبي في سنة 1954 حين كنت في عمر يتخطّى الصبا رويداً ليتطلع إلى ما حوله فيجد من يغذيه بما تتوق إليه نفسه فيتعلق به لاشباع طموحاته، وحيث كانت في نفسي نوازع للأدب والشعر خاصة وكنت أحاول منذ الصبا كتابة الشعر لذلك كنت أتحيّنُ كلّ فرصة للّقاء بأديب أو شاعر لاستمع منه نتاجه وأسمعه نتاجي المتواضع ثم لاسمع منه تعليقه على ما نظمت من الشعر، فكانت علاقتي مثلاً بالمرحوم العلامة السيد صالح القزويني العالم والخطيب والشاعر أوثق من الخئولة فهو أول من قرات عليه قصيدتي الأولى وكنت في سن العاشرة من العمر والتي اذكر فيها افراد اسرتنا فامدح هذا وأقدح ذاك (حسب ما تشتهيه نفس الطفولة) حتى إذا بلغت في القصيدة لذكر خالي المذكور فكان البيت هكذا وإن خالي صالح بن المهدي وانه للخير دائماً يهدي فقال لي: إحذف دائماً واجعلها دوماً فأصبح البيت موزوناً بالشطرين فاخرج من جيبه (ربع دينار) وقدمها لي هدية وكانت طبعة جديدة عليها صورة النخيل في العراق، وقال كلمته التي ظلت تدوي في سمعي إلى أمد بعيد، قال (أنت اشعرُ من في آل قزويني) وممن كنت اتشوق للقائهم الشاعر الشهير عباس أبو طوس، فإنه كان يستمع جيداً ثم يدعوني لتغيير شطر من بيت أو كلمة أليق مما كتبتُ دون أن يذكر لي البديل حيث يدفعني إلى ايجاد البديل للكلمة أو الشطر بنفسي، حتى اذا كنت في المتوسطة ووجدت استاذي الأديب مدرس اللغة العربية الاستاذ موسى الكرباسي واسمعته بعضاً من شعري وجدت فيه التشجيع العظيم الذي كان يدفعني إلى مزيد من النظم والإهتمام الأدبي حتى إنه كتب كتاباً عن البيوتات الأدبية في كربلاء بعد سنوات من الدراسة عنده وذكرني فيه مع نموذج من شعري.
اللقاء مع السيد الشهيد: هذا ما كان من بعض الأدباء والشعراء فيما يتعلق بنظم الشعر والابداع فيه إلاّ أن لقائي بالسيد الشهيد العالم الأديب السيد حسن الشيرازي كان يختلف في المنهج والاسلوب الفكري الذي يحمله ويغذي به الآخرين ألا وهو (الأدب الموجّه) فالشعر والأدب يجب أن يكونا في خدمة العقيده، والكلمةُ الحرةُ يجب أن تقال في مجتمع تتجاذب الافكار إلا لحادية والنزعات الشريره التي تتقاذف الشباب يمنةً ويَسره والاحزاب التي زرعها الاستعمار في بلادنا الإسلامية تشحن افكار الجيل الجديد بأوهام الشيوعيه والقومية والاشتراكية لترسم في عقولهم (جَنّةَ عدن) إذا ما انظمّوا اليهم ولم يدركوا ان هناك خطة خبيثه لحشد الشباب المسلم في ركاب هذه الأحزاب التي سوف تجرّ الويلات لهذه الشعوب المسلمة، وهنا يأتي دور العالم والمفكر والأديب ليقول كلمته وينشر قصيدته ويلقي خطابه حتى لو أدى ذلك إلى سجنه وتشريده أو حتى قتله واستشهاده اسوةً بالإمام الحسين سلام الله عليه وبقية أهل البيت سلام الله عليهم الذين بذلوا كلّ غال ونفيس في سبيل إعلآء كلمة الله وانقاذ الخلق من الجهل والغوايه وكيد الأعداء فكان العلامة الشهيد مثال الأديب الشاعر العالم الذي قال كلمته حيث تجنَّب الآخرون وذلك في قصائده التي تلهب ناراً على دعاة الشيوعية والبعثية والتي كان يُلقي بعضها بنفسه وبعضها أقوم أنا بالقائها في بعض الأحتفالات والتي ادّى عنها الثمن الغالي في سجنه وتعذيبه وقتله فيما بعد في بيروت سنة 1980 حيث ذهب شهيداً سعيداً ولقد قلت فيه من جملة ما قلت: أعطى وأعطى فما استبقى فقيل له خير العطايا لنفسُ أيها الشهم فقال اني نذرت النفس ابذلها في ساحة الله لا موتٌ ولا سقم وكان أخي العلامة المجاهد الأديب السيد مرتضى القزويني الذي كان في خطاباته ومواقفه الشجاعة يصبُّ الشرر على رؤوس الشيوعيين في دورتهم التي حكموا خلالها العراق 959ـ1962 وعلى البعثيين في الفترة الأولى سنة 1963 ودخل السجن مرات عديدة ولاقى من الاهانة والتعذيب ثم كانت الفترة الثانية لحكم البعثيين التي أنقذه الله منها حين خرج متزامنا مع السيد الإمام المرحوم آيه الله السيد محمد الشيرازي باعجوبة من العراق وكذلك ابن عمنا العلامة الخطيب الشهير وأخونا في الرضاعة وصاحب المؤلفات الكثيرة المرحوم السيد محمد كاظم القزويني الذي نال قسطاً من السجن في فترة من فترات حكام العراق الظالمين كان هؤلاء جميعاً قد تشربوا من معين رائقٍ وورثوا تراثاً متصلاً بأهل البيت عليهم السلام ودرسوا عند نخبة من علماء عصرهم وفقهاء تلك الدورة وعلى الأخص عند المرجع الكبير والمعلم الحبر مثال التقوى والزهد والهيبة والجمال الملائكي المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي رحمه الله تعالى ثم عند وارثه العظيم الإمام المرحوم السيد محمد الشيرازي الذي ملأ الدنيا بكتبه ومؤلفاته وغرس في نفوس هؤلاء الأبطال روح التضحية والفداء في سبيل هذا الدين الإسلامي العظيم والدفاع عن منهج سيد المرسلين صلّى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين حتى لو أدّى إلى استشهادهم (وذلك أقصى آمالهم).
الشهيد والانقلاب المزعوم: وهنا لا بد لي أن اذكر قضية عايشتُها في أواخر أيام السيد الشهيد في بغداد حيث كان يقبع في السجن ويلاقي أنواع التعذيب الروحي والجسدي ويقابل ذلك بالصبر والجلد المتوارث عن أهل البيت سلام الله عليهم وقبل أن يُطلق سراحُه في سنة 1969 في تلك الأيام الرهيبة التي أوعزت الحكومة البعثية برئاسة (البكر) لتوجيه إتهامٍ قذر إلى السيد الشهيد على لسان الحاكم العسكري العام السابق (رشيد مصلح) بأن السيد وعده بالأموال لتهيئة انقلاب عسكري ضد البعثيين وإن هذه الأموال تأتي من الخارج وبالدولار الأمريكي (اي ان السيد والعياذ بالله مرتبط بالأمريكان). ولما اذيعت المحاكمة في الراديو والتلفزيون العراقي ، انتشر الخبرُ الكاذبُ والمقصودُ منه إهانةُ العلماء والمرجعية الدينية عامة والسيد الشهيد خاصة، علماً بأن أهل السياسة والخبرة يعلمون جيداً بأن الأمريكان هم الذين هيأوا السلطة للبعثيين وسلطوهم على رقاب الشعب العراقي المسكين المغلوب على أمره وحكومة البعث هي التي هيأت الظروف والمقدمات لمجيئ الأمريكان لاحتلال العراق بحجة تحريره من حزب البعث وتسلط صدام المقبور (عميلهم العتيد) المنتهي دوره فما كان من المخلصين وعلى رأسهم الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي إلاّ أن يبذلوا قصارى جهدهم لانقاذ السيد الشهيد من التعذيب والسجن بالوسائل الممكنة ووساطة الشخصيات العلمية وبعض الشخصيات العالمية وبدوري كنت اسعى عند هذا وذاك واتشبث بكل وسيلة ممكنة لانقاذ السيد الشهيد مما هو فيه من العذاب في السجن.
محاولة لانقاذ الشهيد: وفي يوم من الأيام خطر ببالي الاستاذ حسن الحاج وداي العطية الذي كان محافظاً في مدينة كربلاء المقدسة سابقاً، في أوائل مجيئ البعثيين، ولكنه اليوم أي في سنة 1969 يشغل منصب المدير العام لشركة الصناعات الثقيلة وهو عضو بارز ومهمّ في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم فذهبتُ اليه في مكتبه الكائن يومذاك في الطوابق العليا من بناية مصرف الرافدين ـ في شارع الرشيد بجوار البنك المركزي العراقي في بغداد وبعد السلام عليه ومصافحته قلت له يا استاذ حسن أريد أن أذكّرك بيوم مجيئك إلى كربلاء المقدسة فهل تذكر ان والدك الحاج ودّاي العطيه وهو من بقايا رجال ثورة العشرين جاء قبلك إلى كربلاء ليستقبلك في صحن روضة الحسين عليه السلام وليس في الدار المخصصة لمحافظ كربلاء ولا في قاعة الادارة المحلية التي عادة ما يُستقبل المحافظ الجديد هناك وتقام المناسبات الحكومية فيها؟ قال نعم اذكر ذلك، فما المقصود بهذه القصة؟ قلت ان والدك كان يُقدِّرُ ويُجلُّ الدينَ وعلماء الدين وأراد ان يجلب انتباهك بأن علاقة أسرتك بالدين وبالحسين سلام الله عليه خاصة عليك ألاّ تفرّطَ بها عند تسلّمك منصباً في الدوله. قال لم اعرف قصدك لحد الآن قلت أترضى وأنت ابن هذه الاسرة العريقة والمتدينه أن يُودَعَ عالمٌ جليل وابنُ مرجع عظيم كالسيد حسن الشيرازي في السجن ويُعذَّب بأنواع التعذيب لِتُهمٍ باطلة تُنسب إليه على لسان (رشيد مصلح) الذي اعترف على نفسه بما لا يعلم مدى صحته إلاّ الله تحت التعذيب ثم عطف في جلسة أخرى من جلسات محاكمته ليتَّهم السيد الشيرازي بالتُّهم الباطلة بالارتباط بدول أجنبية. قال: كأنك لم تصدِّق أن عالماً يُصبح يوماً عميلاً للاجنبي؟ قلت: هيهات يا استاذ حسن وسأثبت لك بالأدلة التالية. أولاً: ان الذي يبيع دينه ووطنه للأجانب يكون عادة انسانا معقداً مريضاً ويشعر بالحقارة والحقد على شعبه ووطنه وابناء جلدته، وربما يجرّه الفشل في الحياة او الفقر المدقع إلى الخيانه ثانياً: يكون هذا الإنسان بمعزل عن الدين والأخلاق والمثُل السامية ومن طبقةٍ محرومة من التربية الصالحة وليس له قيمه اجتماعية. ثالثاً: تاريخ الإنسان وسوابقه وعلاقاته الاجتماعية ترسم صورة الخير أو الشر في سلوكه تجاه الناس والوطن وأنت تعرف جيداً يا استاذ حسن ان عالماً مؤلّفاً قديراً مثل السيد الشيرازي يتمتع بمزايا لم ينعم بها كثيرٌ من الناس حتى بعض العلماء الأفاضل. فهو ينحدر من اسرة دينية عريقة شريفه تعلّمُ الناس الدين والاخلاق والعفّه وحبّ الوطن الذي هو من الايمان ويُغذي الناس لا سيما تلامذته بالمعاني الساميه والنُبل والشرف والجهاد ضد المستعمرين والطغاة وان أجداده من الاعلام الذين اصدروا الفتاوى ضد المستعرين سواءً في قضية التّنباك في سامراء أيام الميرزا الشيرازي أو في أيام خاله الميرزا محمد تقي صاحب الفتوى في ثورة العشرين، فهذه العائلة من مفاخر العراق. وأما الناحية المادية فهم على زهدهم يوزعون ما يصل إليهم من الحقوق الشرعية على الحوزة العلمية وعلى الفقراء والارامل والايتام ولا ينالون منها إلاّ ما يسدّ الرمق فكيف تقبل عقلاً يا استاذ حسن ان يكون رجلٌ بهذا المستوى من العلم والفضل والأدب والشرف وعراقة الأسرة وابن مرجع كبير من مراجع التقليد وصاحب المؤلفات الدينية والأخلاقية ثم يكون عميلاً للاجانب؟ حاشا وكلاّ.
إصرار على القي: فقال: إذا لم تصدق هذا الاتهام بالنسبة إلى الشيرازي فسنثبت لك وللعالم اجمع في هذه الليلة وفي الاذاعة والتلفزيون أن رجلاً أهم بكثير من الشيرازي وهو مهدي الحكيم اصبح عميلاً للمخابرات الأمريكية وهنا أدركتُ أن هذا الرجل قد فقد كلَّ القيم التي كان يتمتع بها أبوه واسرته وباع كلَّ شيء للحزب ازاء منصبه وموقعه في السلطة فيئست منه وخرجت بدون توديع وكنت مطمئناً أثناء حديثي الشجاع معه ولكنه عندما ذكر السيد الحكيم وما يُراد به هذه الليله بدأت أرتعد من هول ما سمعت وخرجت مسرعاً إلى داري في الاعظمية بالقرب من المقبرة الملكية لاُخبر أخي السيد مرتضى الذي كان مختبئاً عندي في داري هناك بعد أن تعقبَّهُ رجال الأمن في كربلاء.
سفرة احتجاج: ٍ ثم ذهبت إلى الكاظمية حيث السيد المرجع الكبير الإمام السيد محسن الحكيم رحمه الله كان قد انتقل من النجف إلى دار (الحاج عباس) مع أولاده واصحابه في سفرة احتجاج ضد الحكومة وتصرفاتها التي بدأت بعد ستة شهور من استلامهم للسلطة باعتقال الشخصيات المرموقة واعدام البعض بعناوين وادعاءات مزيفة وتسفير طلاب الحوزة العلمية من الإيرانيين وغيرهم فكان خروج السيد الحكيم من النجف الاشرف إلى بغداد يمثل تظاهره سلمية ضد هذه الاجراءات الحكومية الظالمة حيث بدأت تكشر عن أنيابها بعد أن اخفتها لمدة ستة اشهر وادعت بأنها صاحبه الثورة البيضاء.
مظاهرات سلمية: ولما علم الناس بخروج السيد الحكيم بدأت الوفود تتقاطر عليه من جميع المدن العراقية من الشمال حتى الجنوب وتأتي على شكل مظاهرات سلمية وتردد بعض الشعارات التي تؤيد السيد الحكيم وتندد بالحكام واذكر منها هذه الهوسة التي رددها وفدٌ من وفود عشائر الجنوب عند مرورهم أمام مقر البكر بس السيد يامر بيك والله نشلعَك والله نشلعَك وكتب البعض الآخر شعارات كبيرة فوق سياراتهم التي تقلهم من اطراف العراق (قائدنا السيد الحكيم) وغير ذلك من هذه الشعارات الحماسية التي ملأت شوارع بغداد ثم تجمعت في دار السيد الحكيم الموقت.
اللقاء مع السيد مهدي الحكيم: وقد كنت صباح ذلك اليوم قد ذهبت إلى دار السيد الحكيم والتقيت نجله الشهيد السيد مهدي الحكيم (الذي قتلوه بعد سنوات في السودان غدراً) وطلبت منه بإلحاح أن يهتم بقضية السيد حسن الشيرازي وكنت قد خاطبتُه بلهجة شديدة حيث قلت يا أبا صالح والله إن لم تهتمّوا بقضية السيد الشيرازي فسوف يأتي دوركم واحداً بعد الآخر) وهنا تأثر السيد مهدي رحمه الله وقال بلهجة الغاضب المنفعل من كلامي .. قال: والله يا سيد محمد رضا ان قضية السيد حسن هي أولى أو ثاني قضية يبحثها سيدي الوالد مع اي مسئول يزوره هنا في البيت وانتم تتصورون باننا لا نعير لقضيته ايّ اهتمام، اتقوا الله ولا تتهمونا. قلت له: حاشا يا أبا صالح والله ما قصدتُ في كلامي إلاّ أن أحثّك على المزيد من الاهتمام فقد وصلتنا اخبار عن تعذيبه بشتى انواع التعذيب ثم ودعتُه والسيد محمد بحر العلوم وخرجت إلى الساحة الخارجية لأجد الآلاف من البشر الوافدين من اطراف العراق تأييداً لخروج السيد الحكيم وقد امتلأت بهم الساحة الخارجية والشوارع المحيطة بتلك المنطقة بحيث يصعب على الماره هناك ان يخترقوا صفوف المواكب والمشاة في الشوارع والارصفة كان هذا صباحاً.
العودة إلى دار المرجع الحكيم: وفي نفس اليوم ذهبت للقاء الاستاذ حسن الحاج وداي العطية، وحين جابهني باجابته القاسية في اتهام السيد مهدي الحكيم عدت ثانيةً إلى الكاظمية لأخبر السيد الحكيم بما سمعت من هذا المسئول الكبير الذي يؤكد ان الحكومة ستذيع عن طريق الراديو والتلفاز قضية اتهام السيد الحكيم بالعمالة لأمريكا، اقتربت السيارة التي كانت تُقلُّني من شارع الرشيد إلى الكرخ إلى طريق الكاظمية وقبل مسافة طويلة من الوصول إلى الدار التي يقيم فيها السيد المرجع الحكيم اخبرني السائق بأنه لا يتمكن من الوصول أكثر من هذا المكان الذي يبعد مئات الأمتار عن دار السيد من شدة الازدحام وكثرة السيارات التي تنقل الوفود وكذلك المشاة على جانبي الرصيف. فترجلت من السيارة وسرت في ذلك الزحام حتى وصلت إلى باب المنزل الكبير وهناك وجدت سماحة السيد محمد بحر العلوم يستقبل الوفود ويودع الآخرين فهمست في اذنه انني اريد السيد مهدي بشكل فوري لأمر خطير، فقال لي إن السيد أبو صالح في داخل الدار مع سيدنا الحكيم ومع ضيوف كبار يتحدث معهم فما مرت هنيئه حتى خرج السيد مهدي من داخل الدار وناداه السيد بحر العلوم فجاء الينا وأخذته إلى زاوية من الحديقة الكبيرة لأخبره بما سمعت من (حسن الحاج وداي العطية) وقلت له: ارجوا ان نذيع هذا الخبر على الجمهور في هذه الساعة حتى ينتشر الخبر بان الحكومة تنوي الصاق تهمة قذرة بالمرجعية حين يتّهمون ابن المرجع الكبير وسوف ينتشر الخبر في كل العراق وبذلك نُفشل خطة الحكومة قبل إذاعتهم. فقال السيد مهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون دعنا نفكر فيما ينبغي أن نعمله فان الأمر ليس بهذه البساطة قلت له المثل يقول (دعنا نتغدّى بهم قبل أن يتعشوا بنا) قال: دعني أفكر.
محاكمة صورية واتهامات باطلة: فخرجت إلى بيتي في الأعظمية حيث اخي السيد المرتضى في انتظار الاخبار لحظة بلحظة ووصلت إلى الدار وكان الوقت عصراً فوجدت أخي مضطرباً من خبر أذاعته اذاعة الاهواز عن إعدام السيد حسن الشيرازي في السجن ببغداد وحيث لم نعلم عن صدق الخبر ولكن المؤشرات تدفعنا إلى التصديق به (رغم انه كان كذباً) هنا اخبرت أخي السيد المرتضى بمقابلتي مع حسن الحاج ودّاي وما اخبرني به عن تصميم الحكومة بتشويه صورة السيد الحكيم في اتهام نجله الكبير السيد مهدي فزاد في اضطرابه وتشنجه وكان اولاده يومذاك صغاراً وهو في حالته المضطربه لا يتحمل صياحهم وحركاتهم فاخذتهم إلى خارج الدار ليخلو له البيت وتهدأ اعصابه المتشنجة من أخبار الساعة التي تزيده اضطراباً في كلّ آن وبعد ساعات عدت إلى بغداد من طريقي إلى الأعظمية لأجد الناس قد تجمعوا حول اجهزة التلفاز في المقاهي أو بعض المحلات التي تعرض التلفزيون، فاستوقفت السائق عند احدى المقاهي وسألت أحدهم ما الخبر؟ فقال عندك راديو بالسيارة افتح وشوف. ففتحنا الراديو في داخل السيارة لنسمع المأساة في المحاكمة الاجرامية حين يسأل الحاكم الدجال (علي وتوت) من طلعت او رفعت الحاج سرّي المتهم بالعمالة والمخابرات الأمريكية ويقول له بعد اعترافه على نفسه، ومن كان معك في لقائك مع المخابرات الأمريكية فيجيب الحاج سري (كان معي ملا مصطفى البرزاني ومهدي الحكيم) فيسأله أي مهدي فيُردّ (انه ابن السيد محسن الحكيم) وتنتهي الجلسة وعند ذلك يذاع بيان مجلس قيادة الثورة بتخصيص مبلغ 10000 (عشرة ألاف دينار) دينار لمن يدل على مكان السيد مهدي الحكيم.
افرغ من فؤاد أم موسى: هنا وصلنا بالقرب من داري في الأعظمية فانزلت الأولاد بباب الدار وطلبت من سائق السيارة ايصالي فوراً إلى الكاظمية لأرى ما حلّ بالسيد الحكيم وكنت أتوقع أن مظاهرة ضخمة ستتوجه إلى القصر الجمهوري احتجاجاً على هذا الخبر المأساوي وتوقعت ان اجد صراعاً بين الشرطة والجماهير المتحشدة التي تركتُها قبل ساعات قليلة. ولكن المفاجاءة الرهيبة كانت انني عندما اقتربت من تلك الساحة التي يطل عليها منزل السيد الحكيم وجدتها أفرغ من (فؤاد أم موسى) فشككت أولاً أنها ليست تلك الساحة التي غادرتها قبل ساعات ثم انتبهت ان بالباب جندياً وشرطيا للحراسة والدار هي الدار ولكن قصة خذلان مسلم بن عقيل في الكوفة قد تكررت ثانية وصدّقُها بعد ان كنت أشك فيها.
|
|||
|