سماحة المرجع الشيرازي في لقاءه بجمع من وكلائه في العراق:

المسؤولية اليوم في العراق هي تثقيف الشباب بثقافة إسلام المعصومين اﻷربعة عشر

   

إن مسؤولية أهل العلم والعلماء أكبر من مسؤولية غيرهم، ومحاسبتهم أشدّ من غيرهم، كما إن مقام العلماء أرفع من مقام غيرهم، ومنزلتهم عند الله تعالى وعند رسوله وعند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين أعلى من غيرهم. فهناك تكافؤ وتناسب وسنخية بين مسؤولية العلماء ومقامهم، أي كلما ارتفع مقام العالِم عظمت مسؤوليته.

هذا ما قاله المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في مستهلّ كلمته القيّمة التي ألقاها بجمع من وكلائه في العراق، وذلك في بيته المكرّم بمدينة قم المقدسة يوم الاثنين الموافق للتاسع من شهر جمادى اﻷولى 1430 للهجرة.

وقال سماحته أيضاً مشيراً إلى أهمية مسؤولية العلماء: يقول الحارث بن المغيرة وهو أحد الثقات من أصحاب الإمام الصادق صلوات الله عليه: ِ

لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [الصادق]عليه السلام فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: مَنْ ذَا أَحَارِثٌ؟

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: أَمَا لأحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ. ثُمَّ مَضَى، فَأَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: لَقِيتَنِي فَقُلْتَ لأحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ: نَعَمْ مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الأذَى أَنْ تَأْتُوهُ فَتُؤَنِّبُوهُ وَتَعْذِلُوهُ وَ تَقُولُوا لَهُ قَوْلا بَلِيغاً؟(1)

وعقّب سماحته: إن الإمام الصادق صلوات الله عليه أعرف من غيره بكتاب الله وبقوله سبحانه: «ألاّ تزر وازرة وزر أخرى»(2) فلماذا يحمّل مسؤولية ذنوب السفهاء وهم الجهّال على العلماء؟

وأجاب سماحته موضّحاً: إن العالم له القدرة على تحويط الجاهل وتحصينه من الذنوب والمعاصي والغفلة، وهذه القدرة غير متوفرة أو يفقدها غير العالم. فالعالم يستطيع أن يخلق جواً وأن يوجد مناخاً يؤثر على تقليل ارتكاب الجهّال للمعاصي والذنوب. وهذا كان عمل اﻷنبياء واﻷوصياء. فالعالم بمقدار علمه يعرف من أين تؤكل الكتف.

وقال سماحته: إن استقامة العالم في سلوكه واعتقاده وانعكاس ذلك في الواقع الخارجي هو الذي يخلق مناخاً جيّداً ومؤثراً في تقليل معاصي الجهّال.

نعم هذا اﻷمر هو طريق شائك وفيه مشاكل ومتاعب كثيرة، ولكن بما أن العالم له تأثير بالغ على غيره ممن هو ليس بمستواه لذا يتوجّب عليه أن يقوم بمسؤوليته حسب مقامه. ولذا قيل: فساد العالِم فساد العالَم.

قبل فترة قال لي أحد أهل العلم بأنه يريد بناء مسجد في إحدى المدن بجمع التبرّعات من الناس. فقلت له: حاول أن تبني مؤسسة تنتج صنّاع المساجد، بدل أن تبني مسجداً واحداً. فقال: يعني ماذا؟ قلت له: إبنِ مدرسة للعلوم الدينية حتى يتخرّج منها أمثالك ممن يقومون ببناء مساجد وحسينيات ومؤسسات.

إن مثل هذه اﻷمور لا تتأتى إلا من العالم.

وفي سياق كلامه قال المرجع الشيرازي: حسب المصطلح العلمي: إن العمل بالواجب المطلق يعني إيجاد مقدمات وجود ذلك الواجب في الواقع الخارجي. ومن الواجبات المطلقة هو قوله تعالى: «أقيموا الدين»(3) وهذا أمر قرآني ومعناه: أيها المؤمنون اعملوا على ما من شأنه إقامة الدين، والدين عند الله هو الإسلام.

وأضح سماحته: إن إقامة الدين يعني عمل الناس بالواجبات وتركهم للمحرّمات، وبعدها ـ أي بالدرجة الثانية ـ عملهم بالمستحبّات وانتهاءَهم عن المكروهات. ومن مقدّمات إقامة الدين إصدار مجلة وتأليف كتاب، والخطابة، والنصائح الفردية وتأسيس المدارس والهيئات الثقافية وما شابه ذلك.

وأضاف سماحته: إن مولانا رسول الله صلى الله وآله هو خير قدوة لنا في العمل على إقامة الدين. فأقرأوا سيرته لتعرفوا ذلك جيّداً.

هنا أذكر لكم نموذجاً من سيرته صلى الله عليه وآله:

ذكرت الروايات الشريفة أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَطَاءٍ الْمَكِّيَّ سَأَلَ الإمام الباقر صلوات الله عليه عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ...)، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله تَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ مُتْعَةً، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ نِسَائِهِ، فَاتَّهَمَتْهُ بِالْفَاحِشَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وآله: إِنَّهُ لِي حَلالٌ، إِنَّهُ نِكَاحٌ بِأَجَلٍ فَاكْتُمِيهِ. فَأَطْلَعَتْ عَلَيْهِ بَعْضَ نِسَائِهِ(4).

وعقّب سماحته: لقد كان من حق رسول الله صلى الله عليه وآله وكان بإمكانه أن يصفع زوجته تلك لتجرّئها عليه صلى الله عليه وآله ولاتهامها إياه تلك التهمة الباطلة، لكنه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك معها واكتفى بتوضيح بطلان ما تفوّهت به. فهل تجدون نظيراً لهذا التعامل عند غير رسول الله صلى الله عليه وآله؟

إن هذا التعامل من رسول الله صلى الله عليه وآله هو درس للعالمين أجمع كي يتعلّموا كيف يتصرّفون مع من يخطئ بحقّهم، وهو درس للرجال أيضاً كي يتعلّموا التصرّف الصحيح مع زوجاتهم اللاتي يخطئن بحقهم.

وأردف سماحته: كما أن مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه هو خير قدوة لنا. فلقد كانت فترة حكومة الإمام خمس سنوات، وفي هذه السنين فُرضت على الإمام سلام الله عليه شتى المشاكل العظيمة، كان منها ثلاث حروب قاسية وهي الجمل وصفين والنهروان. ومع ذلك كله ترك الإمام مواقف فريدة في التاريخ في إدارته الإقتصادية والسياسة وغيرها، لم ير نظير لها حتى في أغنى دول اليوم، وفي أكثر دول العالم حرية.

إن مسألة الحرية هي من أهم المسائل في السياسة، وإن أهم موضوع في الحرية هو حرية الرأي وحرية إبداء الرأي المخالف. يعني إذا كان للحاكم رأي في أمر ما فيجب أن يكون لغيره ممن لا يرى رأي الحاكم الحقّ والحريّة في أن يبدي رأيه المخالف.

نعم في العصر الحالي توجد حرية في بعض البلدان ولكنها حرية ضمن قيود. فمثلاً حرية القيام بمظاهرة مسموح بها إلى الجهات والهيئات واﻷحزاب والمنظمات المعترف بها من قبل الدولة ضمن شروط منها:

أن يقدّم طلب مكتوب بإقامة مظاهرة. وأن يذكر مكان انطلاق وإقامة المظاهرة. وأن يعيّن زمان المظاهرة، وأن تذكر الشعارات التي من المقرّر ترديدها في المظاهرة.

أما في حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، أي قبل أربعة عشر قرناً حيث كانت الدكتاتورية مطبقة على العالم، فإنه سلام الله عليه سمح لاُناس بالمظاهرة ضد قانون أعلنه هو سلام الله عليه دون فرض قيود، بل واستجاب لمطالب المتظاهرين.

إن أهل البيت اﻷطهار سلام الله عليهم نور وخطّهم نور وكلامهم نور وفكرهم نور وسيرتهم نور، والناس لا يعرفون ذلك، فيجدر بأهل العلم أن يكونوا عند مسؤولياتهم تجاه أهل البيت، بأن يعلّموا الناس سيرة وثقافة المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، كي يهتدوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.

يقول مولانا الإمام الرضا صلوات الله عليه: «فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»(6).

وشدّد سماحته قائلاً: إن من أهم مسؤوليات أهل العلم اليوم وخاصة أهل العلم في العراق، مع وجود كل المشاكل والمتاعب، هو أن يقوموا بتثقيف اﻷمة في العراق، وخصوصاً جيل الشباب، باﻹسلام الحقيقي المتمثّل بإسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وإسلام أهل البيت صلوات الله عليهم. فهداية شاب واحد يكون سبباً لهداية الكثير من الشباب. والشباب العراقي إذا تثقّف بثقافة رسول الله وأهل بيته اﻷطهار صلوات الله عليهم فسيكون العراق في المستقبل جنّة الدنيا وأسوة للدول التي تنشد الحضارة والحرية، فضلاً عمّا لهم ولمن يقوم بتثقيفهم عند الله تعالى من مقام عظيم وأجر كبير.

وأكّد دام ظله مخاطباً الحضور: إن تثقيف الأمة في العراق بثقافة الإسلام هي أيضاً مسؤولية كل العراقيين من حاكمين وتجّار وعشائر وموظّفين ومثقفين وشباب، رجالاً ونساء. ولكن مسؤولية أهل العلم أكبر من غيرهم.

فأدّوا المسؤولية وتحمّلوا المتاعب والمشاكل والمعاناة، فإن لكم عند الله أجراً عظيماً، وكما يقول مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «مرارة الدنيا حلاوة اﻵخرة»(7).

وختم سماحته كلمته بقوله: انطلاقاً من قول مولانا الإمام الصادق سلام الله عليه الذي صدّرت به كلمتي ليَسْعَ أهل العلم أن يكونوا عند مسؤولياتهم حتى يستطيعوا بالمقدار الممكن أن يهدوا السفهاء، وحتى لا يكونوا مقصّرين، وحتى لا يتحمّلوا وزر السفهاء. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

 المصدر: مؤسسة الرسول الأكرم


1) فروع الكافي/ج8/ حديث الناس يوم القيامة/ ص162/ ح169.

2) سورة النجم: الآية 38.

3) سورة الشورى: الآية13.

4) وسائل الشيعة/ ج21/ باب1 إباحتها/ ص10/ ح26377.

5) سُئل الإمام الصادق صوات الله عليه عَنِ الصَّلاةِ (النافلة) فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ؟ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام الْكُوفَةَ أَمَرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عليه السلام أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ لا صَلاةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً. فَنَادَى فِي النَّاسِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام بِمَا أَمَرَهُ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ مَقَالَةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ صَاحُوا: وَاعُمَرَاهْ وَاعُمَرَاهْ. فَلَمَّا رَجَعَ الْحَسَنُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام قَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ النَّاسُ يَصِيحُونَ وَاعُمَرَاهْ وَاعُمَرَاهْ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: قُلْ لَهُمْ صَلُّوا. وسائل الشيعة/ ج8/ باب 10 عدم جواز الجماعة في صلاة النافلة في شهر رمضان/ ص46/ ح10063.

6) عيون أخبار الرضا/ ج1/ باب 28 فيما جاء عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام/ ص307/ ح69.

7) غرر الحكم/ طلاق الدنيا مهر الجنة/ ص147/ ح2676.