شهادة الإمام الصادق عليه السلام في الخامس والعشرين من شوال مظلومية لم ترفعها الأيام
بسم الله الرحمن الرحيم ذكرت الروايات المعتبرة انّ أبو العباس السفاح أوّل خلفاء بني العباس، طلب الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام من المدينة إلى العراق ولكنه اخلى سبيله وأجازه بالذهاب إلى المدينة بعد ما رأى المعاجز الباهرة والآيات الظاهرة والعلوم الوافرة والأخلاق العالية من الإمام الهمام. فلما وصل الامر إلى المنصور الدوانيقي أخ السفاح واطلع على كثرة الشيعة واتباع الامام الصادق عليه السلام دعاه إلى العراق وصمم على قتله خمس مرات أو أكثر لكنه كان ينصرف عن عزمه في كل مرّة بعد مشاهدة المعاجز العظيمة منه عليه السلام.
الدعاء المستجاب: روى ابن بابويه وابن شهر آشوب وغيرهما انه: أرسل أبو جعفر الدوانيقي إلى الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام ليقتله وطُرح له سيفاً ونطعاً وقال: يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى فاضرب عنقه، فلّما دخل جعفر بن محمد عليهما السلام ونظر إليه من بعيد تحرّك الدوانيقي على فراشه، وقال: مرحباً وأهلاً بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا اليك الاّ رجاء أن نقضي ذمامك. ثم سأله مسألة لطيفة عن أهل بيته، وقال: قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك، يا ربيع لا تمضين ثلاثة حتى يرجع جعفر إلى أهله، فلما خرج قال له الربيع: يا أبا عبد الله رأيت السيف؟ انما كان وضُع لك والنطع، فأي شيء رأيتك تحرّك به شفتيك؟ قال جعفر بن محمد عليه السلام: نعم يا ربيع، لما رأيت الشرّ في وجهه قلت: «حسبي الله الربّ من المربوبين، حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا اله الا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم». وعلى رواية أخرى: انّ الربيع قال للمنصور: يا أمير المؤمنين لقد كنت من أشدّ الناس عليه غيظاً فما الذي أرضاك عنه؟ قال يا ربيع لما حضرت الباب رأيت تنّيناً عظيماً يقرض بأنيابه وهو يقول بألسنة الآدميين: إن أنت أشكت ابن رسول الله لأفصلن لحمك من عظمك، فأفزعني ذلك وفعلت ذلك وفعلت به ما رأيت.
ما أصحبك إلا قليلا: روى السيد ابن طاووس رحمه الله: ان المنصور لما نزل الربذة وجعفر بن محمد عليهما السلام يومئذٍ بها، قال: من يعذرني من جعفرٍ هذا... أما والله لأقتلنَّه، ثم التفت إلى إبراهيم بن جبلة قال يا بن جبلة قم إليه فضع في عنقه ثيابه ثم أئتني به سحباً. قال إبراهيم: فخرجت حتى أتيت منزله فلم أصبه فطلبته في مسجد أبي ذر فوجدته في باب المسجد، قال: فاستحييت أن أفعل ما أمرت به، فأخذت بكمه، فقلت له: أجب أمير المؤمنين، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون دعني أصلي ركعتين، ثم بكى بكاءاً شديداً وأنا خلفه، ثم قال: اللهم أنت ثقتي (للدعاء) ثم قال: اصنع ما أُمرت به. فقلت والله إني لا أفعل ولو ظننت إني اُقتل، فأخذت بيده فذهبت به، لا والله ما أشك الاّ انّه يقتله، قال: فلما انتهيت إلى باب الستر قال: يا إله جبرئيل (الدعاء). ثم قال إبراهيم: فلما أدخلته عليه، قال: فاستوى جالساً ثم أعاد عليه الكلام، فقال: قدمت رجلاً وأخرت أخرى اما والله لأقتلنك، فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت فارفق بي، فو الله لقلّ ما أصحبك، فقال له أبو جعفر: إنصرف، ثم التفت إلى عيسى بن علي فقال له: يا أبا العباس الحقه فسله أبي؟ أم به؟ (يعني قولا الإمام عليه السلام: ما أصحبك بأن يموت هو أو أنا) فخرج يشتدّ حتى لحقه. فقال: يا أبا عبد الله ان أمير المؤمنين يقول لك: أبك؟ أم به؟ فقال: لا بل بي، فقال أبو جعفر: صدق. وروى أيضاً عن محمد بن الربيع الحاجب انه قال: قعد المنصور يوماً في قصره في القبة الخضراء وكانت قبل قتل محمد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان يوم يقعد فيه يسمى ذلك اليوم يوم الذبح، وكان قد أشخص جعفر بن محمد عليهما السلام من المدينة فلم يزل الحمراء نهاره كلّه حتى جاء الليل ومضى أكثره.
خسران الآخرة: قال: ثم دعا أبي الربيع فقال له: يا ربيع انك تعرف موضعك منّي وانّي يكون لي الخبر ولا تظهر عليه امّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، فقال: قلت يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت، سر الساعة إلى جعفر بن محمد بن فاطمة ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فائتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئاً ممّا هو عليه. فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون هذا والله هو العطب، إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإن لم آت به وادّهنت في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فخيرت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي إلى الدنيا. قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد بن علي ـ عليهم السلام ـ فتسلق على حائطه ولا تستفتح عليه باباً فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً فأت به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل الا أقله، فأمرت بنصب السلالم وتسلقت عليه الحائط فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلما سلم من صلاته قلت له: أجب أمير المؤمنين. فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت له: ليس إلى ذلك سبيل، قال: وأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك سبيل فلا تشغل نفسك فإني لا ادعك تغير شيئاً، قال: فاخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله وكان قد جاوز عليه السلام السبعين. فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب،فركب بغل شاكري كان معنا ثم صرنا الى الربيع فسمعته وهويقول له: ويلك ياربيع قد أبطأ الرجل وجعل يستحثّه إستحثاثاً شديداً، فلما أن وقعت عين الربيع على جعفر بن محمد وهو بتلك الحال بكى.
ركعتان خفيفتان: وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السلام: ياربيع أنا أعرف ميلك إلينا فدعني أصلي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلى ركعتين خففهما ثم دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه الّا أنه دعاء طويل والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع، فلما فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على الدوانيقي، فلما صار في صحن الإيوان وقف ثم حرّك شفتيه بشيء لم أدر ماهو، ثم أدخلته، فوقف بين يديه. فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل البيت من بني العباس وما يزيدك الله بذلك إلا شدّة حسد ونكد ما يبلغ به ماتقدره. فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فو الله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا؟ وأنت ابن عمي وأمسّ الخلق بي رحماً وأكثرهم عطاء وبراً فكيف أفعل هذا؟
إتهام باطل: فأطرق المنصور ساعة وكان على لبد وعن يساره مرفقه جرمقانية وتحت لبده سيف ذو فقار كان لا يفارقه إذا قعد في القبة، قال: أبطلت وأثمت، ثم رفع ثني الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا استحل ذلك ولا هو من مذهبي وإني لمن يعتقد طاعتك على كل حال وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيرني في بعض جيوشك حتى يأتيني الموت فهو مني قريب، فقال: لا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده إلى السيف فسل منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم رد السيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إنا لله مضى الرجل وجعلت في نفسي إن أمرني فيه بأمر أن أعصيه لأنني ظننت انه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً فقلت: إن أمرني ضربت أبو جعفر الدوانيقي وإن أتى عليّ وعلى ولدي، وتبت إلى الله عز وجل مما كنت نويت فيه أولاً، فأقبل يعاتبه وجعفر يعتذر، ثم انتضى السيف الا شيئاً يسيراً منه فقلت إنا لله مضى والله الرجل، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال: أضنك صادقاً، ياربيع هات العيبة من موضع كانت فيه القبّة، فأتيته بها، فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوءة غالية، وضعها في لحيته وكانت بيضاء فسودّت، وقال لي: إحمله على فارة من دوابي التي أركبها وأعطه عشرة آلاف درهم، وشيعه الى منزله مكرّماً وخيّره إذا أتيت به الى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه والإنصراف الى مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله.
الفرج السريع : فخرجنا منه وأنا مسرور وفرح بسلامة جعفر عليه السلام ومتعجب مما أراد المنصور وما صار إليه من أمره فلمّا صرنا في الصحن قلت له: يا ابن رسول الله إني لأعجب مما عمد إليه هذا في بابك وما أصارك الله إليه من كفايته ودفاعه ولا عجب من أمر الله عزوجل وقد سمعتك تدعو في عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلا انه طويل ورأيتك قد حرّكت شفتيك ها هنا ـ أعني الصحن ـ بشيء لم أدر ما هو. فقال لي: أما الأول فدعاء الكرب والشدائد لم أدع به على أحد قبل يومئذ، جعلته عوضاً من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأما الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الأحزاب ثم ذكر الدعاء. ثم قال لولا الخوف من أمير المؤمنين لدفعت لك هذا المال ولكن قد كنتَ طلبت مني أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت، يا ابن رسول الله انما رغبتي بالدعاء الأول والثاني وإذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال: انّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلّم إليك الأرض،...وأملى عليّ دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين. قال: فقلت: يا بن رسول الله لقد كثر إستحثاث المنصور واستعجاله إيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنك لم تخشه؟ قال: فقال لي: نعم كنت أدعو به بعد صلاة الفجر بدعاء لا بد منه، فأما الركعتان فهما صلاة الغداة خففتهما ودعوت بهذا الدعاء بعدهما، فقلت له: أما خفت يا أبا جعفر وقد أعد لك ما أعد؟! قال: خيفة الله دون خيفته وكان الله عز وجل في صدري أعظم منه.
الربيع يستفهم الدوانيقي: قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور من غضبه وحنقه على جعفر ـ عليه السلام ـ ومن الجلالة له في ساعة ما لم أضنه يكون في بشر، فلما وجدت منه خلوة وطيب نفس، قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قطّ ولا على عبد الله بن الحسن ولا على غيره من كل الناس حتى بلغ الامر ان تقتله بالسيف وحتى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثم أغمدته ثم عاتبته ثم أخرجت منه ذراعاً ثم عاتبته ثم أخرجت كله إلا شيئاً يسيراً فلم أشك في قتلك له، ثم إنجلى ذلك كله فعاد رضى، حتى أمرتني فسوّت لحيته بالغالية التي لا يتغلف منها إلا أنت ولا يغلف منها ولدك المهدي ولا من ولّيته عهدك ولا عمومتك وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرماً.
هؤلاء بني فاطمة: فقال: ويحك يا ربيع ليس هو كما ينبغي أن تحدث به وستره أولى ولا أحب أن يبلغ ولد فاطمة فيفتخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا أكتمك شيئاً أنظر من في الدار فنحِّهم، قال فنحّيت كل من في الدار، ثم قال لي: إرجع ولا تبق إحداً، ففعلت، ثم قال لي: ليس إلا أنا والله وأنت لئن سمعت ما ألقيته إليك من أحد لأقتلنك وولدك وأهلك أجمعين ولآخذنّ مالك. قال: قلت يا أمير المؤمنين أُعيذك بالله، قال: يا ربيع كنت مصراً على قتل جعفر ـ عليه السلام ـ وأنا لا أسمع له قولاً ولا أقبل له عذراً وكان أمره وإن كان ممن لا يخرج بسيف أغلض عندي وأهم عليّ من أمر عبد الله بن الحسن، فقد كنت أعلم منه ومن آبائه على عهد بني أمية، فلما هممت به في المرة الأولى تمثل لي رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا هو حال بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطّب في وجهي عنه. ثم هممت به في المرة الثانية وأنتضيت من السيف أكثر منما إنتضيت به في المرة الأولى فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله قد قرب مني ودنا شديداً وهم لي أن لو فعلت لفعل، فامسكت ثم تجاسرت وقلت: هذا بعض أفعال الرَّئِي (الجني يراه الإنسان) ثم إنتضيت السيف في الثالثة فتمثل لي رسول الله صلى الله عليه وآله باسطاً ذراعيه قد تشمر واحمر وعبس وقطب حتى كاد أن يضع يده عليّ، فخفت والله لو فعلت فعل وكان مني ما رأيت، وهؤلاء بني فاطمة صلوات الله عليهم لا يجهل حقهم إلا جاهل لا حظَّ له في الشريعة فإياك أن يسمع هذا منك أحد. قال محمد بن الربيع: فما حدثني به أبي حتى مات ـ أي الدوانيقي ـ، وما حدّثت أنا به حتى مات المهدي وهارون وقُتل محمد الأمين.
صفوان يروي: وروي أيضاً بسندٍ معتبر عن صفوان بن مهران الجمال أنه قال: رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم الى أبي جعفر الدوانيقي وذلك بعد قتله لمحمد وإبراهيم إبني عبد الله بن الحسن، إن جعفر بن محمد بعث مولاه المعلّى بن خنيس بجباية الأموال من شيعته وإنه كان يمد بها محمد بن عبد الله، فكاد المنصور أن يأكل كفه على جعفر غيضاً، وكتب الى عمّه داوُد، وداود اذ ذاك أمير المدينة أن يسيّر إليه جعفر بن محمد ولا يرخِّص له في التّلوم والمقام. فبعث إليه داود بكتاب المقام وقال: اعمل في المسير الى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخر، قال صفوان: وكنت في المدينة يومئذٍ فأنفذ إلي جعفر عليه السلام فصرت إليه فقال لي: تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إن شاء الله الى العراق، ونهض من وقته وأنا معه الى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وكان ذلك بين الأولى والعصر، فركع فيه ركعات فحفظت منه يومئذٍ من دعائه: يا من ليس له إبتداء (الدعاء). قال صفوان: سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام بأن يعيد الدعاء عليّ فاعاده وكتبته، فلما أصبح أبو عبد الله عليه السلام رحّلت له الناقة، وسار متوجهاً الى العراق حتى قدم مدينة أبي جعفر واقبل حتى إستأذن فأذن له.
الإمام في بغداد: قال صفوان: فاخبرني بعض من شهد أبي جعفر، قال: فلما رآه أبو جعفر قرَّبه وأدناه، ثم استدعا قصة الرافع على أبي عبد الله عليه السلام يقول في قصته: انّ معلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمد يجبي له الأموال. فقال أبو عبد الله عليه السلام: معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: تحلف على براءتك من ذلك؟ قال: نعم أحلف بالله ما كان من ذلك شيء، قال أبو جعفر: لا بل تحلف بالطلاق والعتاق، فقال أبو عبد الله: أما ترضى يميني بالله الذي لا إله إلا هو؟ قال أبو جعفر: فلاتفقّه عليّ، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فاين يذهب بالفقه منّي يا أمير المؤمنين. فقال: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عنك حتى يواجهك، فاتو بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه السلام: فقال نعم هذا صحيح وهذا جعفر بن محمد ـ عليه السلام ـ والذي قلت فيه ما قلت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: تحلف أيها الرجل أن هذا الذي رفعته صحيح؟ قال: نعم، ثم إبتدأ الرجل باليمين، فقال والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالي الحي القيوم. فقال له جعفر: لا تعجل في يمينك فإني أنا أستحلف، قال المنصور: وما أنكرت من هذا اليمين؟ قال: ان الله تعالى حي ّ كريم يستحي من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل أيها الرجل: أبرأ الى الله من حوله وقوته وألجأ الى حولي وقوّتي إني لصادق برٌّ فيما أقول. فقال المنصور للقرشي: إحلف بما إستحلفك به أبا عبد الله، فحلف الرجل بهذا اليمين، فلم يستتم الكلام حتى إجذم وخرَّ ميتاً، فراع أبا جعفر ذلك وإرتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد الله سر من غد الى حرم جدّك إن اخترت ذلك، وأن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك، فو الله لا قبلتُ عليك قول أحد بعدها أبداً.
رواية الإسكندري: وروى أيضاً عن محمد بن عبيد الله الاسكندري أنه قال: كنت من جملة ندماء أمير المؤمنين المنصور أبي جعفر وخواصه وكنت صاحب سرّه من بين الجميع، فدخلت عليه يوماً فرأيته مغتماً وهو يتنفس نفساً بارداً، فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة وقد بقي سيّدهم وإمامهم. فقلت له: من ذلك؟ قال: جعفر بن محمد الصادق، فقلت له: يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة، فقال: يا محمد وقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن الملك عقيم، وقد آليت على نفسي أن لا أمسي عشيتي هذه أو أفرغ منه. قال محمد: والله لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها ثم دعا سيافاً وقال له: إذا أنا أحضرت أبا عبد الله الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلّنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فأضرب عنقه، ثم أحضر أبا عبد الله عليه السلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدر ما الذي قرأ فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، فرأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس، قد إصطكت أسنانه وأرتعدت فرائصه، يحمرّ ساعة ويصفرّ أخرى، وأخذ بعضد أبي عبد الله الصادق عليه السلام وأجلسه على سرير ملكه، وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه. ثم قال له: يا ابن رسول الله ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: جئتك يا أمير المؤمنين طاعة لله عزوجل ولرسول الله صلى الله عليه وآله ولأمير المؤمنين أدام الله عزّه، قال: ما دعوتك والغلط من الرسول، ثم قال: سل حاجتك، أسألك أن لا تدعوني لغير شغل. قال: لك ذلك وغير ذلك.
البرهان الجلي: ثم انصرف أبو عبد الله عليه السلام سريعاً وحمدت الله عز وجل كثيراً ودعا أبو جعفر المنصور الدوايج (ضرب من الثياب) ونام ولم ينتبه إلا في نصف الليل، فلما إنتبه كنت عند رأسه جالساً فسرّه ذلك، وقال لي: لا تخرج حتى أقضي ما فاتني من صلاتي فأحدثك بحديث، فلما قضى صلاته أقبل عليّ وقال لي: لمّا أحضرت إلي أبا عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ وهممت به ما هممت من السوء رأيت تنيناًَ قد حوى بذنبه جميع داري وقصري وقد وضع شفتيه العليا في أعلاه والسفلى في أسفلها وهو يكلمني بلسان طلق، ذلق، عربيّ، مبين: «يا منصور أن الله تعالى جده قد بعثني إليك وأمرني إن أنت أحدثت في أبي عبد الله الصادق عليه السلام حدثاً فأنا أبتلعك ومن في دارك جميعاً» فطار عقلي وأرتعدت فرائصي وأصطكّت أسناني. قال محمد بن عبد الله الأسكندري: فقلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت، قال محمد: فقلت له بعد أيام: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج لزيارة أبي عبد الله الصادق؟ فأجاب ولم يأب، فدخلت على أبي عبد الله وسلّمت وقلت له: أسألك يا مولاي بحق جدك محمد رسول الله صلى الله عليه وآله أن تعلمني الدعاء الذي تقرأه عند دخولك الى أبي جعفر المنصور، قال: لك ذلك، ثم علّمه عليه السلام الدعاء.
الأيام الأخيرة: توفى الإمام الصادق عليه السلام في شهر شوال سنة 148هـ بالعنب المسموم الذي أطعمه به المنصور، وكان عمره الشريف حين إستشهاده خمساً وستين سنة، وروى الشيخ الطوسي وكذلك (الكليني) عن سالمة مولاة أبي عبد الله عليه السلام إنّها قالت: كنت عند أبي الله عليه السلام حين حضرته الوفاة فأغمي عليه ثم أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن الحسين ـ وهو الأفطس ـ ديناراً وأعطوا فلاناً كذا وكذا وفلاناً كذا وكذا، فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة؟ فقال: ويحك أما تقرئين القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما سمعت قول الله عزوجل: «والذي يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب». فقال: أتريدين على أن لا أكون من الذين قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) الرعد:21، نعم يا سالمة ان الله خلق الجنة وطيبها وطيب ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم. روى الشيخ الكليني عن الامام موسى الكاظم عليه السلام انه قال: أنا كفَّنت أبي في ثوبين شطويين (مصريين) كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين عليه السلام وفي برد اشتراه بأربعين ديناراُ.
حين الوفاة: وروى أيضاً انه لما قبض أبو جعفر عليه السلام أمر أبو عبد الله عليه السلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد الله عليه السلام ثم أمر أبو الحسن عليه السلام بمثل ذلك في بيت أبي عبد الله عليه السلام. وروى الشيخ الصدوق عن أبي بصير انه قال: دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد الله عليه السلام فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً فتح عينيه ثم قال: اجمعوا لي كل من بيني وبينه قرابه. قالت: فلم نترك أحداً الاجمعناه، قالت: فنظر اليهم ثم قال: ان شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة.
بقيع الغرقد: وروي عن عيسى بن داب انه قال: لما حمل أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام على سريره وأخرج إلى البقيع ليدفن قال أبو هريره(العجلي من شعراء أهل البيت المهاجرين هذه الأبيات): أقــول وقد راحوا بـه يحملونه عـلى كـاهل من حامليه وعاتق أتـدرون مـاذا تحـملون إلى الثرى ثبيراً ثوى مـن رأس علياء شاهق غداة حثا الحاثـون فـوق ضريحه تراباً وأولى كـان فـوق المـفارق قال المسعودي: دفن الصادق عليه السلام بالبقيع عند أبيه وجده وكان عمره خمساً وستين سنة وقيل انه مات مسموماً وعند قبورهم بالبقيع حجر مرمر مكتوب عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله مبيد الأمم ومحيي الرمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى عليه وآله سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمد بن علي وجعفر بن محمد رضي الله عنهم»، وأقول صلوت الله عليهم أجمعين. روي عن داود الرقي وفد من خراسان وافد يكنى أبا جعفر واجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة فنزل وزار أمير المؤمنين عليه السلام ورأى في ناحية رجلاً حوله جماعة، فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء ويسمعون من الشيخ.
الثمالي والنبأ المفجع: فسألهم عنه، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي، قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمد عليه السلام فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الاعرابي هل سمعت له بوصية؟ قال: أوصي إلى ابنه عبد الله وإلى ابنه موسى وإلى المنصور. فقال أبو حمزة الحمد الله الذي لم يضلنا، دل عل الصغير، ومن علي الكبير، وستر الأمر العظيم، ووثب إلى قبر أمير المؤمنين عليه السلام فصلى وصلينا، ثم أقبلت عليه وقلت له: فسر لي ما قلته؟ فقال: بين أن الكبير ذو عاهة، ودل على الصغير بأن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل من وصيه؟ قيل: أنت.
النبأ يصل بغداد: روى الشيخ الكليني والطوسي وابن شهر آشوب(واللفظ للكليني) عن أبي أيوب النحوي انه قال: بعث الي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته فد خلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، قال: فلما سلمت عليه رمى بالكتاب الي وهو يبكي. فقال لي: هذا محمد بن سليمان يخبرنا ان جعفر بن محمد قد مات، فانا الله ونا اليه راجعون ـ ثلاثاًُ ـ وأين مثل جعفر؟ ثم قال لي: اكتب، قال: فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: أكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدمه واضرب عنقه قال: فرجع إليه الجواب انه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ومحمد بن سليمان وعبد الله وموسى وحميدة. قال العلامة المجلسي رحمه الله: كان الامام عليه السلام يعلم بعلم الامامة ان المنصور سيقتل وصيه فأشرك هؤلاء النفر ظاهراً فكتب اسم المنصور اولاً لكن الامام موسى بن جعفر عليه السلام هو الذي كان مخصوصاً بالوصية دونهم وكان أهل العلم يعرفون ذلك كما مضى في رواية أبي حمزة الثمالي. والحمد لله رب العالمين..
|
|