عيد الفطر المبارك ابتهاج الأرض ورضوان السماء بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك يتقدم مكتب المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله الوارف في كربلاء المقدسة الى المولى المُفدّى صاحب العصر والزمان أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء والى مراجعنا العظام والى الأمة الإسلامية بأسمى آيات التهاني والبركات سائلين المولى سبحانه أن يعيده والمؤمنين كافة بأتم عافية وسرور انه سميع مجيب.
بسم الله الرحمن الرحيم آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي قدس سره استهلال: جرت العادة ـ منذ ان كانت الخليقة ـ ان يحتفل الإنسان بـ «عيد» يكرس فيه فرحته وابتهاجه، وفر في ان ينسب هذا «العيد» إلى احفل موسم من مواسم الجذل والبهجة، فاختار «عيد الربيع» و «عيد الشتاء»، وكان «عيد المهرجان» و «عيد النيروز». ثم وجد انه أفضل من ان يتواضع لمشاطرة الطبيعة، فيبتهج كلما ابتهجت الأرض، ويكتئب إذا اكتئبت الأرض. فجعل ينحت من أسماء الآلهة المزعومة أعياده، فكان «عيد ادونيس» و «عيد باخوس»: عيد لهذه الآلهة، وعيد لتلك الآلهة. وجاءت الأديان، فسحقت العبادات الوثنية، وانهارت الأعياد الوثنية معها، وأنشأت أعياداً أخر، فنشط «عيد الميلاد» و «عيد الفصح» و «عيد جميع القديسين» و «خميس الجسد»... وكرت السنين.. وانفلت الناس من الأديان، ولكن غريزة حب العيد، ظلت تنبش في قلوبهم عن مرفأ، وحيث ان الناس قد رجعوا عن عبادة الآلهة والأوثان إلى عبادة أنفسهم، كرسوا لأنفسهم أعياداً. فظهر هناك «عيد العمال» و «عيد الموتى». ثم فكروا في أوطانهم، فأقاموا «عيد العرش» و «عيد الجمهورية» و «عيد الاستقلال» و «عيد الهدنة». ثم فكروا في أطفالهم وأمهاتهم، فأبدعوا «يوم الأم» و «يوم الطفل». وقد لا تطول الأيام، حتى يعيد الناس «عيد الفضاء» فيحتفلون بـ «يوم المريخ» و «يوم القمر» و «يوم الزهرة» و «يوم زحل». وربما ينسف المستقبل أعياداً، ويقيم أعياداً. وفي كل قطر نجد أعياداً خاصة به وبشعبه، ناتجة عن أفكار واتجاهات شعبه، ولكننا نستطيع ان نلخص الأعياد لجميع الأمم الحية والغابرة والطالعة في خطين:- 1ـ أعياد مادية تحيي ذكريات انتصاراتها، كـ «عيد الحرية» و «عيد النصر» وأعياد وطنية، وأعياد قومية. 2ـ أعياد فكرية، تنسب إلى أمور جديرة بالاهتمام، لتشجيعها وألفات النظر إليها، كـ «عيد الطفل» و «عيد الأم» وأعياد الأبطال، والمناسبات، غير العسكرية.
أعياد الإسلام: إن الإسلام، وإن كان يحمد كل عظيم، ويقدس كل انتصار ينطلق من خطوطه العريضة، إلا انه ديني عالمي خالد، فهو فوق ان يجرد أعياده من أفراد أو مناسبات، عسكرية أو غير عسكرية. لأن الأعياد الوطنية أو القومية، يمكن أن تنتزع من أفراد خدموا ذاك الوطن، أو ذلك القوم، أو مناسبات تعم كافة أفراد الشعب الذي يبتهج بها بحيث يشترك كل أبناء ذاك الوطن، أو ذاك القوم، في الابتهاج بأولئك الأفراد، وتلك المناسبات. وأما أعياد الإسلام، فلا بد أن تكون عالمية خالدة، يشترك في الابتهاج بها، كل من يوجد في أي مكان من العالم، في أي جيل من البشر. فما هي أعياد الإسلام، إذن؟ هل هي، ذكرى انتصار المسلمين في «بدر» وفي «الخندق» وفي «فتح مكة»؟ لا شك أعياد انحدرت هي إلينا، وانحدرت انتصاراتها إلينا، وعلينا ان نبتهج بها، فلولاها لما كنا مسلمين، ولكنها ـ رغم كل ذاك ـ أعياد مرحلية، ابتهج بها المسلمون الأوائل، أيام أحرزوها، ولكل أمة من هذه الأعياد كثيرة، لو شاءت إحياءها، لكان جميع أيامها أعياداً، ولكان كل يوم أعياداً، كما أن لها مآسي كثيرة، لو شاءت إحياءها، لكان جميع أيامها مآسي، ولكان كل يوم مآسي، ولكنها تراث وتاريخ، تعتز بهما الأمم، وتؤثر على قيمتها ومستواها، ولكنها لا تقرر حياته ومصيره. فالأيام الفاصلة في الإسلام كثيرة، والأبطال في الإسلام أكثر، لو وزعناها على أيام السنة، لكان نصيب كل يوم مئات منها ومنهم، ولكن المسلمون ـ اليوم ـ لا يعيشون تلك الأيام، ولا ينعمون بأولئك الأبطال، ولا يتحرك شعور الإنسان، إلا بالتجارب مع الأيام التي يعيشها، والأبطال الذين ينعم بهم.
الشيطان والعيد: ان أعياد الإسلام، هي انتصاراته، ولكن ليست تلك الانتصارات التراثية والتاريخية، وإنما هي الانتصارات الحية الخالدة، التي يعيشها المسلمون اليوم وحتى الأبد، كما عاشها المسلمون في أيام الرسول. لأن الإسلام يرى: إن الإنسان وجد على وجه الأرض، ليؤدي دور مصارعة مع الشيطان، مدته منذ بلوغه الشرعي حتى موته، لينطوي إلى الآخرة لاستيفاء مكافئته على فوز المعركة أو خسارتها. فالعدو الوحيد للإنسان هو الشيطان ـ وأما ما سواه فشبيه العدو ـ وصراع الإنسان مع الشيطان، طويل يدوم طول حياته الواعية، ومستمر يظهر في كل نأمة وكلمة فالانتصار على هذا العدو، انتصار يستحق ان يبتهج به المسلم ـ في رأي الإسلام ـ وأما الانتصارات الأخر، فإنها تافهة، لا يقدرها الإسلام بما يساوي الحزن أو الفرح، لأن الإنسان أغلى من المادة، ولم يخلق لهذه الحياة، حتى يعيشها بالأفراح والأحزان (لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) آل عمران: 153 . فمباهج الحياة، لا تسوى إن يفرح بها الإنسان، أو يحزن، وإنما يجدر بالإنسان أن يفرح إذا ربح المعركة، في صراعه مع الشيطان، ويحزن إذا خسر المعركة في صراعه مع الشيطان. (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) يونس: 58. ............................. ويبدو انتصار الإنسان على الشيطان في ثلاثة أيام، هي:- 1ـ عيد الفطر. 2ـ عيد الأضحى. 3ـ عيد الجمعة.
انتصارات عيد الفطر: ففي «عيد الفطر» يجدر بالإنسان أن يفرح، لأن الإنسان قد أعلن المقاومة للشيطان منذ استهلال رمضان، فأغلق على نفسه نوافذ الشيطان، وتخلص لله سبحانه، فلم يستطع الشيطان إغراءه وصرفه عن الله، فثبت انتصاره وانهزام الشيطان، ومن استطاع الانتصار على الشيطان شهراً كاملاً يستطيع التغلب عليه أبدا. لأن الشيطان لا يتسلل إلى الإنسان، إلا عن النوافذ الثلاثة، وهي: البطن، والفرج، والمال. فما استزل الشيطان إنساناً، إلا بإغراء أحد هذه الأسباب. والصائم في رمضان يعلن حربه على الشيطان بالإضراب عن هذه الوسائل، وكأنه يقول للشيطان: إذا كنت تغري الناس إلى الضلال بهذه الوسائل، فإني قد تركتها جميعاً، فيكف بطنه وفرجه، عن الحلال، لأن الله شاء له أن يتركه ثلاثين يوماً، ثم لا ينقضي الشهر إلا ويدفع زكاة الفطرة، بكمية رمزية من المال، ليعلن: انه على أتم الاستعداد للتخلي عن المال، إذا أمر الله بالتخلي عنه، ومن حصن بطنه وفرجه، وتصدق بماله في سبيل الله، فقد أكد انتصاره على الشيطان، فحق له أن يفرح بهذا الانتصار العظيم، فهو في «عيد»: «عيد السنة».
انتصارات عيد الأضحى المبارك: وفي «عيد الأضحى» يحق للحاج ان يفرح بانتصاره على الشيطان، ويحق لغير الحجاج ان يشاطروا إخوانهم الحجاج في فرحتهم الكبرى، وليؤكدوا ـ جميعا ـ إنهم على خط واحد في محاربة الشيطان، سواء منهم من خرج إلى «منى» ليأتمر مع إخوان له من كل فجٍ عميق، تجمعوا على صعيد واحد، لأداء الركن الثالث من أركان الإسلام، وليعلنوا تظاهرهم على الشيطان. ومن لم يستطع أن يشخص إلى «منى» فظل في بلده، ليتوجه بقلبه إلى المؤتمر العالمي السنوي العظيم، وليردد من بعيد ما يردده الحجاج في تلك المشاعر المقدسة. لأن الحاج عندما يشخص من أهله، يجرد نفسه من كل ما لديه مهاجراً إلى الله، وهو لا يعلم: هل يعود إلى أهله أم تغتاله الأقدار، فيسلم إلى تراب الفيافي النائية، بعيداً عن أهله ووطنه؟ ولكنه يخرج ـ هازءاً بالمخاوف والأهوال ـ مهاجراً إلى الله، حتى إذا بلغ الحرم، تجرد حتى من ثيابه، واغتسل رمزاً إلى تطهره من الذنوب، ولبس قطعاً من الأقمشة البسيطة، التي تشبه الأكفان، ليشعر نفسه إنه قد تجرد من الدنيا، ودخل باباً من أبواب الآخرة، وتخلع من الأنساب والألقاب، وحشر مع الألوف من أمثاله، في عرصات تشبه عرصات القيامة، باغترابها، وحرارتها، وجدب أراضيها الواسعة المتجهمة، التي لا زرع فيها ولا ضرع، ولا مفاتن ولا منازه، وهو يردد مع الألوف:- «لبيك، اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك لبيك». ثم يدخل المسجد العظيم، الذي عاش تاريخ الإنسان، فحمل ـ عبر القرون ـ ذكريات أكثر الأنبياء، ثم ضم بين الركن والمقام، أبدان أكثر من سبعين نبياً، وطاف بالبيت ـ الذي يمثل مركز القداسة الإلهية ـ وهو يرمز إلى انه قد وهب نفسه ضحية مخلصة لله، وقبّل الحجر الأسود ـ الذي لا إغراء فيه ولا جمال، حتى لا يقبله شهوة وعاطفة، بل تقديساً وتذللاً ـ وقديماً قبله العظيم، وكأنه شاء أن يطبع قبلاته الطاهرة، على ذلك الثابت ـ الذي لا يزحزحه الدهر ـ ليتبادلها مع مسلمي الأرض، حتى تقوم القيامة، فيضع المسلم شفتيه على الحجر، وكأنما يتلمس موضع شفتي رسول الله، لتكون قبلة وبيعة.
نفحات العظمة: ثم يأتي مقام إبراهيم وزمزم، ليعب من الذكريات العظيمة الخالدة، التي تقدمها هذه المشاهد إلى الأجيال، على مسرح القصة الخالدة: قصة الطاعة والإيمان والتسليم: طاعة العبد لربه، وطاعة الابن لربه وأبيه، وطاعة الزوجة لربها وزوجها: قصة إيمان الرجل والمرأة والغلام، قصة الصبر والتسليم. قصة القضاء على خرافة تقديم الإنسان قرباناً للآلهة. وقد كانت متبعة من عهد قديم، لطالما أريقت الدماء الإنسانية الزكية، على أقدام الأوثان الجامدة استجابة لهذه العقيدة، فأراد الله القضاء عليها على يد خليله إبراهيم عليه السلام، وقصها قرآناً على حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: فلما بلغ معه السعي، قال: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين*فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ*وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الصافات: 102ـ107. ثم يذبح الحاج ضحيته، وهو يرمز إلى استعداده للفداء متى شاء الله، وكيفما شاء، ويشير إلى دم الإنسان يفدي بدم الحيوان، فيذبح الضحية، وتطهراً لنفسه، وعهداً يبرمه بينه وبين الله، وكأنه يريد أن يقول: «ان كان إبراهيم عليه السلام أطاع ربه فأقدم على ذبح عواطفه وشهواته في ذبح ولده، فقد أطعت ربي في ذبح أهوائي وشهواتي ممثلة في ذبح كبش أخرجته من حُرِّ مالي».. وتخليداً لذلك الحدث الحاسم، الذي أحدث تطوراً صلبياً في صيغة الأديان، ولونها بهالة السلام بعدما كانت ملطخة بدماء الأطفال الأبرياء، وأوجد انقلاباً فكرياً وعاطفياً وتاريخياً، اشتركت في أداءه السماوات والأرض. وينتهي المطاف برمي «الجمرات» الثلاث ـ التي تمثل أشباح الشياطين المشوهة ـ بصغار الأحجار، رمزاً إلى ضؤولة قدر الشيطان، أن يرمي بالأحجار الكبار. وعندئذ، فقد انتصر على الشيطان، فلقد تخلى عن جميع المغريات المادية، وقدم حياته الخاصة، لقمة سائغة للأخطار، وعاش ذكريات النبيين، ثم ضرب الشيطان بالأحجار، فما كان من الشيطان إلا أن تقهقر وانهزم، وما دام قد ربح هذا الانتصار العظيم، فهو في «عيد»: «عيد النصر» و «عيد التحرير».
النصر الإسبوعي: وفي «عيد الجمعة» يحق للمسلم أن يهنأ ويستبشر، فالمسلم الذي عاش أسبوعاً كاملاً، في طاعة الله، وتمرد على الشيطان، فلم ينخدع بتسويلاته ومغرياته، وختم إسبوعه بيوم الجمعة، فقدم الصدقة، ووصل الرحم، ودعا بالمأثور، فقد انتصر على الشيطان، فهو في «عيد»: «عيد الأسبوع». فهذه الأعياد الثلاثة، أعياد الإسلام، لأنها أعياد النصر البشري، التي يعيشها كل مسلم في أي مكان ومن أي جيل كان، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، دونما تمييز أو اختلاف، فهي الجديرة بأن يتبناها الإسلام أعياداً، لأنها أعياد تنسجم مع طبيعة الإسلام، فهي أعياد عالمية خالدة، كما أن الإسلام دين عالمي خالد.
|
|