اللا عنف في الثورة الحسينية المقدسة

الشيخ عدي طالب آل حمود

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

الإسلام واتهامات العنف:

إن من أكثر الاتهامات التي مني بها الإسلام وأهله شيوعاً هي تهمة السيف وسفك الدماء أو  بعبارة مركزة (العنف) حتى أن أعداءه ولكثرة ما أذاعوا ذلك عنه تصور البعض أن المسلمين ما هم إلا أناس مصاصي الدماء لا هم لهم إلا القتل مبتعدين عن الإسلام مبغضين له ولمن يتشيع له، محاربين لأنصاره بكل ما أوتوا من قوة، هكذا أفلت القرون وبين طياتها الكره للإسلام ولصاحبه صلوات الله عليه وآله، وفي نظري أن تلك الاتهامات لم تتأتى ضد الدين الإسلامي ولم تتركز في أذهان الغير عنه إلا (إجمالاً) لسببين:

سرعة انتشار الإسلام وتنامي قوته في المجتمع الدولي يومها وظهوره كقوة عظمى نتيجة لاستخدام الإسلام ونبيه العظيم صلى الله عليه وآله لحق الدفاع الشرعي ومن الجلي للعيان أن حروب الرسول صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام كلها دفاعية.

إن الحروب التي شنت ضد الدول والأقوام الأخرى قد حملت دعاية الإسلام معها وأدخلت تلك الأقوام إليه ومن المعروف أن تلك الحملات قادها رجال الإسلام منهم براء، عكسوا في الكثير من أفعالهم صورة مشوّهة عنه.

فينبغي نتيجة هذا السبب إن نلتمس لهم العذر ونبرز لهم إضاءة الإسلام ونضارته وتعاليمه ليعرفوا الحق حقاً فيتبعوه بدل أن يحاربوه.

إن أصحاب المذهب الحق والمتوجب عليهم إيصاله إلى العالم أجمع قد عملوا على ذلك إلا أن ما عملوه لحد الآن زهيداً بل أن الغير من المسلمين الآخرين أو الأديان السماوية الأخرى فاقتهم في هذا المجال والسبب في ذلك هو تكالب أهل الدنيا عليهم وإعراضهم عن المذهب الحق وكذلك هو ذات السبب الرئيسي في اتهام الإسلام بالعنف وهو عدم إعطاء المنصب الرئيسي في الدولة وهو نصب الإمامة لمن هو أهله ولمن نصبه الله سبحانه وهو ذات السبب الذي اندلعت من أجله الثورة الحسينية المباركة.

 

أسباب النهضة الحسينية:

الإمام المعصوم هو المجسد الحقيقي للإسلام بل أن المعصوم هو القرآن الناطق وهو بذاته مظهر جوهر الدين وتعاليمه السامية وكتاب الله العزيز احتوى على الكثير من آياته على أوامر السلم ونبذ العنف والأمر بالرفق واللين فكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وخلفاءه المعصومين عليهم السلام، المتمثل وبالشكل التام لتلك الأوامر والمجسد لها واقعاً من خلال ألفاظه وأقواله أو أعماله بل حتى تقريره فسيرة المعصومين عليهم السلام مليئة بتعاليم السلم ونبذ اللاعنف ويتجلى ذلك في كثير من وقائع عاشوراء الحسين عليه السلام وقبل أن نخوض في غمار البحث والتحليل لتلك الوقائع كان لا بد من الوقوف عند الأهداف التي دعت الإمام الحسين عليه السلام إلى النهوض بالثورة لتسفك بذلك الدماء الطاهرة والتي هي عند الله سبحانه أغلى من كل شيء ولعلنا نستطيع إيراد مجمل الأهداف الرئيسية للنهضة المباركة  (1)  بالتالي:

فضح الحكومة الأموية واجتثاث جذورها.

تصحيح الاعتقادات الدينية للمسلمين.

تصحيح سلوك الناس وتقويمه بعد أن تلون سلوك الناس وأخلاقهم بطابع العنف والاستبداد والوحشية.

والمتأمل في تلك الاصلاحات ليجد التشخيص الدقيق من قبل قائد الثورة المقدسة لأسباب السمعة السيئة أو ثقافة العنف التي اتهم  بها الإسلام لدى الدول الأجنبية وما زال وطؤها إلى هذا اليوم وهو في ازدياد وما زال الكثير من الناس يسمي ملوك بني أمية وبني العباس بـ (خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله) بل ويترحم عليهم وهم فعلوا ما فعلوا بالإسلام وفكره وآيدلوجيته.

ونحن الآن نتساءل: (هل بان الصبح لذي عينين؟) هل تصححت اعتقادات الناس وارتفعت الغشوة عن عيونهم أو بعبارة أخرى هل تحققت جميع أهداف الثورة الحسينية؟ بالطبع جزئياً ولم تتحقق الأهداف بتمامها فهي ثورة خالدة الإصلاح لا ينبض معين ماءها بتلاشي الأيام والسنين بل يعظم ويتسع حتى يتم نور الله على الأرض بتمامها ويكون الدين لله سبحانه.

قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).

 

مسلم بن عقيل مرآة النهج الحسيني الشريف:

مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام من أبرز تلامذة أبي عبد الله الحسين ومن قبله أمير المؤمنين والإمام الحسن بن علي عليهم السلام، نشأ وتربى وترعرع قرب منزل الوحي وتحت منابر النور، يعرف بالشجاعة والصلابة في العقيدة وصفه سيد الشهداء عليه السلام بـ (أخي وابن عمي ورأيه رأيي) لعلو مكانته عنده عليه السلام لذا كان رضوان الله عليه المجسد الحقيقي لنهج الحسين عليه السلام وثورته المقدسة، كان بذاته ثورة في الكوفة أتيحت له الفرصة في أكثر من مرة لقتل عبيد الله بن زياد ودرء الفتنه إلا أنه أبى أن يخير نفسه بين نهجين إما نهج الغدر والمكر فنبذه، وأما نهج أهل البيت عليهم السلام فاختاره ولو كان فيه حياته.

وبعد أن بايعه أهل الكوفة وكان تحت إمرته ثمانية عشر ألفاً وقيل خمس وعشرين ألفاً، وفي حديث الشعبي بايعه أربعين ألفاً حين كتب للحسين عليه السلام طالباً منه القدوم إلى الكوفة، فلو أنه اختار نهج المستكبرين والمستبدين والعنف ليسيطر على قصر الإمارة لاستطاع ذلك وبسرعة مذهلة، لضعف والي بني أمية النعمان بن بشير ومن معه حتى إذا ما قدم عبيد الله بن زياد لن يجد له في الكوفة متسعاً بل ولا أذن صاغية لما يقول.

إلا أنه سلام الله عليه أبى ألا أن يختار نهج الأنبياء ورسائل السماء نهج السلم واللاعنف فاختار المسجد بدل قصر الإمارة حتى لا يتعالى على الناس وقريباً منهم.

ومرة أخرى في بيت هانئ وما بينه وبين عبيد الله إلا خطوات ويفتك به إلا أنه اختار نهج أمير المؤمنين حيث يقول (لا يفتك مؤمناً).

هكذا هي عقول الرجال المؤمنون عندما يختبروا في المواقف الصعبة فإن الأهم مقدماً عندهم على المهم والغاية ذات الوسيلة حتى وإن فقدوا بذلك حياتهم فإن المبادئ التي يؤمنوا بها والنهج الذي اختاره لا ولن يحيدوا عنه مقدار أنمله، إنه ذات المنهج الذي خطه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسار عليه الحسن والحسين عليهما السلام وأصحابهم فكان مسلم بحق مرآة لثورة الحسين عليه السلام بل هو سفير الثورة الحسينية المقدسة عاش حراً مسالماً واستشهد عليه السلام وهو يقول:

أقسمت أن لا أقتل إلا حرا     *      وإن رأيت الموت شيءً نكرا

كل امرئ يوماً ملاق شرا       *           ويخلط البارد سخناً مرا

رد شعاع النفس ماستقرا       *        أخاف أن أكذب أو أغرا

 

البيت الحرام المصداق الأمثل للّاعنف:

بيت الله الحرام الذي جعله الله امناً ومن دخله كان امنا مهما كان ليس لاحد عليه سبيل إلا ان يكون هو من اهتك حرمت الحرم ففي الاولى يضيق عليه في المأكل والمشرب حتى يخرج ،أما في الثاني فلا لأن حرمة البيت الحرام قد هتكها ذلك الحرم المقدس الذي يأمن فيه لا الانسان فقط بل كل مخلوق من مخلوقات الله امنه مطمئنه فيه، فهو في الاسلام ونهجه المثال الأظهر للسلم والسلام ونبذ الاعنف فالمتوجب على كل مسلم حماية الحرم والحفاظ عليه باعتبار ما تقدم لذا نجد نهج سيد الشهداء عليه السلام والمستمد اصلاً من شريعة الاسلام والسلام فعند ما عزم الامام سلام الله عليه على الخروج من مكة بيت الله الحرام اتاه اخاه محمد بن الحنفية وقا له (قد عرفت غدر اهل الكوفة بأبيك وأخيك واني أخاف أن يكون حالك حال من مضى، فأقم هنا فانك أعز من في الحرم، وأمنعه).

فكان جواب الحسين عليه السلام ـ كقائد لنهج الثورة المباركة ـ «أخاف ان يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت».

فلمجرد الاحتمال ابى الإمام البقاء في الحرم وعزم على الرحيل بعيداً عنه لكي لا تدنس مكانة الحرم بقتل شخص آمن، مما يوضح لنا مدى تمسك النهج الحسين الشريف بمبدأ السلم والحفاظ على مقدسات الاسلام وشعائره فكان المعظم لها تعظيم عملي حتى لوا ستدعى ذلك حياته ثمناً لمبادئه. وهكذا سار الحسين عليه السلام بأهله ونسائه وخرج من الحرم في موكب لسان حاله يحكي كونه مسلماً لا يطلب قتال فمن يذهب إلى حرب لا يحمل معه اطفال صغار ولا نساء مسالمات لا معرفة لهن في الحرب وفنونها ومصاعبها ومحنها فكان نهج الاعنف ظاهراً وبارزاً في النهج الحسيني الشريف اراد سلام الله عليه اقامت الحجة بالبرهان الظاهر انه مسالم نابذ للقتال طالباً للاصلاح حتى وان قتل او استشهد فغادر البيت الحرام وهو يقول:

سأمضي فما الموت عار على الفتى                        اذا ما نوى حقا وجاهد سلما

 وواسى الرجال الصالحين بنفسه                         وفارق مثبوراً وخالف مجرما

 

مواقف للاعنف في المسيرة الخالدة:

المواقف هي التي تصنع الرجال وكلما زاد الموقف شدة وحنكة كلما بان معادن الرجال أكثر، فالتمحيص الإلهي يأتي بقدر همة الرجل ودرجته ليرفعه بذلك درجات وهكذا نجد مواقف الحسين عليه السلام في واقعة عاشوراء فمثلاً عندما وصل الموكب الحسيني منطقة (شراف) طلع عليهم الحر الرياحي مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عليه السلام عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده أو يقدم به الكوفة.

وعندما وصلوا إلى الحسين عليه السلام كان العطش الشديد قد ألم بهم، وماذا كان موقف الحسين عليه السلام وهو العالم بأن ذلك العطش سوف يضعفهم ويشل قدرتهم حتى أن أحدهم عندما أراد أن يشرب من الماء كان الماء يسيل من السقاء، فقال له الإمام:ـ أخنث السقاء، فلم يدر ما يصنع لشدة العطش، فقام سلام الله عليه بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه.

ألم يكن بمقدور الإمام عليه السلام وهو بهذا الموقف أن يستغل ضعف العدو ومن ثم يذهب بعياله وصحبه إلى اليمن أو غيرها. إلا أنه عليه السلام أبى إلا أن يضرب لهم المثل الأعلى في نقاء معدنه الشريف وطيب نفسه الزكية وإيمانه العميق بمبادئه السامية وأهمها السلام واللاعنف، بل دعاهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله امتثالاً لقوله تعالى:(ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) على نقيض أعدائه تماماً عندما سيطر عبيد الله على الكوفة ابتدء بالتهديد والوعيد يقوله:(من وجدنا مسلماً في داره فقد برئة منه الذمة) وقوله: ها هي  جيوش الشام القادمة إليكم، ونجدها من أساليبهم وخدعهم ومكرهم، أما الإمام الحسين عليه السلام فيشهد له حديثه مع أبي هدم عندما التقى به في الرهيمة حيث قال: (يا أبا هرم، أن  بني أمية شتموا عرضي فصبرت، وأخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله ليقتلونني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، ويسلط عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم ارمأة فحكمت في أموالهم ودمائهم.

 

لا عنف حتى آخر لحظات الثورة المباركة:

ان قوة المبادئ السامية لايستطيع حملها إلا رجال امتحن الله قلوبهم فرآهم صابرين لا يتزعزع الحق عندهم مهما كانت الضروف المحيطة بهم، فيتمحصون بذلك اكثر فيزداد بذلك تمسكهم بعقيدتهم إلى ان يحققوا الهدف الذي اليه كان قصدهم، فلا يعرفون لليأس طريقاً ولا للاحباط مقاماً انما هو قصد واحد وهدف واحد وان تعددت السبل وتشعبت الطرق، تتبعوها واحد تلو الاخر إلى ان يتم في اخر المطاف تحقق ما تصبوا اليه نفوسهم من ذلك المبدء الذي جسدوه عقيدة.

الإمام الحسين عليه السلام في ثورته المباركة آمن بالسلم لا بالعنف واقام الحجة تلو الاخرى على من قاتلهم بعد ذلك سالكاً بهم احاديث جده المصطفى صلى الله عليه وآله واعراف العرب إلا انهم سدو الابواب ـ ووضعوا اصابعهم في اذانهم ـ فتمت كلمة العذاب عليهم ومن المحاولات التي اراد بها قائد النهضة المباركة هي دعوته لعمر بن سعد قائد معسكر يزيد بن معاوية إلى اجتماع مغلق حضره مع الإمام عليه السلام اخيه العباس وابنه علي الأكبر عليهما السلام واجه فيه الإمام ابن سعد بعدة اسئلة مذكراً اياه بدينه تارة، ومبيناً مكانته من رسول الله صلى الله عليه تارة أخرى فمن كانت هذه مكانته أيقتل ويسفك دمه وانه ليعرف سلام الله عليه انه ان قتل تثبت مبدأ العنف واستحكم وهان بعد ذلك قتل أي كان منزلته فمن منهم يصل الى رتبته الشريفة، ابن سعد لم يبد اي تعاون لانقاذ نفسه متعذر بدار له تهدم ـ ناسياً بذلك دار الاخرة التي يهدّمها بنفسه ـ وضيعه له تؤخذ ـ رغم ذلك قال له الإمام انا ابني لك دارك ان هدمت واخلف عليك خيراً من ضيعتك من مالي بالحجاز إلا انه ـ وكما تقدم ـ تمت كلمة العذاب عليهم من سوء اعمالهم السابقة فبدا لهم انهم يحسنون صنعا.

وهكذا حتى اذا ما جمعوا امرهم وشركائهم وهموا تقتل الحسين عليه السلام فهجم الجيش عليه بعث الإمام اخيه العباس عليه السلام ليمهلوه سواد هذه الليلة يتعبد ربه فانه يحب ذلك،و لعلهم يتفكروا فيما هم قادمون عليه فلعل مع انبلاج نور الفجر ان يشرق على قلوبهم بصيص من نور اليقضه ولتقام عليهم الحجه البالغة (فالله الحجة البالغة) إلا إنهم ارادوا نقيض ذلك للحسين عليه السلام وثورته الغراء (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

 


(1) من أراد التفصيل مراجعة كتاب رؤى عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام للإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه ص11.