بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله
رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين
الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
وبعد... قال
تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)
النازعات: 41.
الإنسان في
عالم التركيب والتعقيد ابعد ما يكون عن البساطة، فذات
الإنسان بدن وروح وسر وعلانية ولكل منها منافيات وملائمات وأمراض وآلام ولذات
ومهلكات ومنجيات.
أمراض البدن:
جسم الإنسان
همه الأكبر ـ في يومنا هذا ويا للأسف ـ فينفق في سبيله كل ما يستطيع سواء في
إنقاذ الجسم من أمراضه الاعتيادية أو تلك الفتاكة والمتفشية في عصرنا الحالي
بشكل غريب بل والمتطورة والمتنوِّعة بشكل مذهل فما إن يتم السيطرة على نوع مرض
معين إلا ويظهر نوع جديد مثّبت لعجز الإنسان عن السيطرة عليه، وهكذا ينفق على
الأبحاث العلمية بغية العلاج الأثمان الباهظة والأموال الكبيرة، وكذا ينفق على
متعة الجسد مالا يقل عن سابقه من أموال طائلة وكأنما لا همَّ للإنسان إلا جسده،
ومن هنا نتساءل: أين حق الروح في كل هذا؟ اين ذلك الجانب الآخر من الإنسان؟
أفلا يستحق هذا الشطر منه الإنفاق؟!!
الروح الخالدة:
الروح
حقيقتها من عالم مفارق لعالم البدن قال تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)
الإسراء: 85.
فالروح من
عالم الأمر محكومة بقوانينه حقيقتها منه, على خلاف البدن ذي التعقيد والتركيب,
بمعنى أن آلآم الروح غيرآلآم البدن, فالبدن مادي فانٍ, والروح مجرد باق, فإن
اتصف بشرائف الصفات كان في البهجة والسعادة ابدًا, وان اتصف برذائل الصفات كان
في العذاب والشقاوة مخلَّدا.
وتلذذ الروح
متوقف على كمالها نظريًا وعمليًا, ومن هنا دأب العلماء بإيراد أبحاث متفاوتة
الدرجات وفق مستوى المتلقي فيختلف العمق البحثي وفق مستوى المقصود من الخطاب
فإن عزم العالم على مخاطبة العلماء كان له في العمق البحثي درجات رفيعة ومقامات
عالية, أما إذا خاطب عموم المكلفين راعى في ذلك بساطة البحث بما تلائم والمستوى
الفكري والإدراك العلمي لهم وهكذا.
النفس والجهاد الأكبر:
تكامل النفس
ـ وكما تقدم ـ بمجاهدتها أو بجهادها حقيقةً, والإنسان مكلف عينًا بجهاد النفس
أي أن الشريعة الغراء أو الخطاب الالهي للمكلفين يوجوب التكامل وبلوغ المراتب
العالية في هذا الصدد ومن هنا أفتى سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد
صادق الحسيني الشيرازي بوجوب الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وهو واجب عيني على
كل احد, ومن هنا شرع بإيراد أبحاث عدة في المقام سنورد بعضها بما يتلاءم وحجم
المقالة.
قال دام
ظله:-
الجهاد
الأكبر وهو جهاد النفس واجب عيني على كل احد, فيجب على كل مسلم ومسلمة ذلك ولا
يسقط عنه بقيام سواه.
وجهاد النفس
بمعنى ان يعمل الإنسان نفسه على اداء الواجبات والإتيان بالخيرات, وترك
المحرمات والشرور.
وصور جهاد
النفس ومصاديقه كثيرة, منها:
تربية النفس:
هنا نتساءل
ما هي أفضل وسيلة لتربية النفس, وما هي أفضل الأعمال التي يجب على الإنسان أن
يمارسها؟
جواب
سماحته: أفضل طريقة لذلك مخالفة هوى النفس باجتناب المحرمات وأداء الواجبات كما
في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)
النازعات: 40-41.
كبر النفس وصغرها:
النفس
كالوعاء, منها واسعة, ومنها ضيقة. فالواسعة لا يملؤها شيء قليل, من مال أو علم
أو منصب أو ما إليها. والضيقة تفيض منها مقادير قليلة حتى تبدو على أطرافها,
مثلاً: إذا تعلم بعض العلم, يقوم بإظهاره في كل مجتمع ومنتدى!, وإذا رزقه الله
قليلاً من المال, أعرض وتكبر, وحسب لنفسه ألف حساب! وإذا تسلم رتبة متواضعة,
رايته وكانه يمشي على السماء, يصُعِّر خده للناس, وهكذا يكون صغير النفس ,
وبالعكس من ذلك من كبرت نفسه واتسعت آفاق فكره, فإنه كلما رأى من خير, رأى بعده
أفقًا وبعده متسعًا.. فتتضاءل لديه نفسه, ويزدري بما حصل, لا ازدراء الكافر
للنعم, والجاحد للفضل, بل ازدراء الفطن الحكيم, فلا يقيم لما أوتي وزنًا, كي
تبطره النعمة, إنه يطلب المزيد من العلم, والزيادة من الفضل.
الأناة والعجلة:
النفوس
كغيرها من الأشياء, فيها الرزين وفيها المشين, فمن النفوس من يحركه اقل شيء
فتستعجل بالأمر, ومنها ما تعمل بتروي وأناة. وذو الأناة في غالب الأحيان يدرك
ما لا يدركه ذو العجلة, إذ بالتأني يرى الإنسان طريقه ويهتدي لصالحه والمستعجل
محروم عن هذه الفائدة, فكثيرًا ما يزلق حيث لا ينجيه. و الإناة غير التكاسل,
فالمتكاسل بعد معرفة طريق الحركة لا يتحرك, والمتأني إنما لا يقدم حتى يعرف وجه
الحركة وكيف ينبغي. والإسلام يحب الإناة ويكره العجلة. قال رسول الله: صلى الله
عليه وآله: «الإناة من الله والعجلة من الشيطان».
الحلم والغضب:
النفس منها
حليمة لا تتحرك بشتم شاتم أو نهب لص أو إيذاء أحمق.. ومنها خفيفة تزعجها أدنى
شوكة وأقل كلمة.. والإسلام يريد من الإنسان تنقية ملكاته وتقويم ما أعوج منها
حتى يكون إنسانا.. ولذلك يحرص على كل فضيلة وينفر عن كل رذيلة.. وبما أن الحلم
من أفضل الفضائل نرى الأحاديث كالقطر تنهال على مسامع البشر من النبي صلى الله
عليه وآله الطاهرين عليهم السلام تحريضًا على هذه الفضيلة وتحذيرًا عن الغضب,
قال رسول الله صلى الله عليه وآله في دعائه: «اللهم أغنني بالعلم وزيني
بالحلم».
فإنه زينة
ونعمة الزينة هي الإنسان بالحلم يرتقي مستوى اجتماعيًا, ولهذا زود الله أنبياءه
عليهم السلام بالحلم فيما زودهم من فضائل ومحاسن.
العُجب:
الإسلام يحث
على تربية الفطرة في النفس مع توجيهها نحو الخير, فهو يرغب في أن يرى الإنسان
نفسه دون كماله المنشود, حتى يجاهد ويجتهد ويكد ويعمد مدى الحياة. وقد أرصد
الإسلام لهذه الغاية آيات وروايات وذم ما يخالف هذه الفطرة التي تسمى بـ (
العجب), ومعناه: أن يرى الإنسان لنفسه كمالاً من غير فرق بين أن يكون متخيله
حاصلا له أم مجرد خيال!
إن العجب
يشل القوى الخيرة, ويوجب الكسل والبطالة, ويوقف النشاط عن العمل, وبذلك يتدهور
الإنسان إلى حيث النقص! أليس من يرى أنه علم القدر الكافي من العلوم يقف عند
حده ولا يتعلم؟ أم ليس من يتخيل أنه عبد الله حق عبادته, يتكاسل عن الطاعة بعد
ذلك؟ وهكذا.
إذاً فليس
عجيبًا من الإسلام أن يجعل العُجب من المهلكات, إنه مهلكة الدين.
الرحمة:
الرحمة مبعث
الخيرات, ومعدن الفضائل, فبالرحمة تتجمع الصلات وتتوحد البشرية, بها يبر الولد
لأباه, وبها يصل المرء قريبه, وبها يألف الزوجان أحدهما على الآخر.. ولشد ما
يدهش الإنسان أو يتأمل في أول السور: (بِسْمِ اللّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فلم يبتدأ الآي إلاّ بصفتين كلتاهما من الرحمة,
وكذلك سورة الحمد (اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
*الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الفاتحة: 2-3
والإسلام يهتم بإيجاد هذه الصفة في القلوب, ويؤكد لتركيزها في أعماق النفس, حتى
تعطي ثمارها الحلوة: صلة الرحم, بر الوالدين, العطف على الأولاد, إشباع الأفراد
الجائعة, إكساء الأجساد العارية, حسن الجوار, وكل خير.
قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: «اطلبوا المعروف والفضل من رحماء أمتي تعيشوا في
أكنافهم».
العفة والشره:
الإنسان
بطبعه ميال إلى ملاذ الدنيا, تواق إلى تحصيل أكبر قدر ممكن منها, فالبطن لا يمل
من الطعام, كالاتون المتطلب للوقود.. والغريزة الجنسية دائمة الاشتعال, تستعمل
ما تجد. وتطلب ما لا تجد. حتى أنه كثيرًا ما يعجز عن الزيادة الأكل أو الغريزة,
ولكنه يدخر أكبر قدر منها لمجرد الشره. وكما أن النقيصة من هذين تورث خللا في
الأجهزة الحيوية من الجسم فيسبب الجوع الزائد ضعفًا وخبالاً في البدن, والكف
الناهز أمراضًا فتاكة, من جراء اختزان المواد المنوية في الأجهزة بل وانقطاعًا
للنسل وخرابًا للعمران. كذلك الزيادة فيهما, توجد مفسدة للجسم, وموروثة للضعف
والاختلال في التوازن.
والإسلام
يحب الوسط في كل شيء وفي هذين فلا شيء يفسد, ولا كف يخل. فأحاديث الزهد
للمكثرين وأخبار التمتع للمقلين.. وهناك آثار للوسط وهو الاعتدال:
(َكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا)
الأعراف: 31.
تزكية البدن:
ليس القصد
من تزكية البدن وتنميته التوصل إلى اكتناز العضلات بالرياضة البدنية, وإنما
القصد تطهير الجسم عن القذرات المعنوية وتطهير الروح بمخالفة الهوى, وربما كانت
الأمراض والأقسام إذا أصيب بها الشخص سببًا لطهارة الروح, فإن يصرف أجهزة جسمه
إلى حيث الفضيلة والأخلاق يزكّي جسمه وروحه, ومن يخالف هواه يزكي روحه ونفسه.
وربما توسم الإسلام الخير في الطوارئ المؤذية إذا تمكن الشخص من الاستفادة منها
والاستقاء من وحيها الأليم.
إن الأمراض
زكاة الأبدان وتطهير لها عن الغلظة والقسوة والتهور.. إنها تعلِّم الإنسان
بالهدوء والسكينة والخضوع.
إضافة إلى
ذلك, إن الإنسان إذا علم بهذه الحقيقة المهمة استغلها لتشفيف روحه وترقيقها
بالفضيلة والخير, وترقية مشاعره وترقيق حواسه وما أعظمها - إذًا – من نعمة
وزكاة. يقول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: «لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان
الصيام» كتاب من لا يحضره الفقيه:ج2ص75باب فضل العلم.
فالصيام
ترقيق وتطهير وتنمية.
الرضا:
الكون كله
خاضع تحت إرادة الله الواحد القهار. لايحيد عنها قيد شعرة, فقد:
(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين) فصلت: 11,
وجزء من هذا الكون هو الإنسان, خاضع لهذه الإرادة الإلهية لا يتمكن أن يحيد
عنها إلاّ بقدر ما أراد الله سبحانه وتعالى فأعطاه الزمام والحرية...
وقد
جرى قلم القضاء في بعض الأمور بما يكون, فسيان فيه التحرك والسكون, فشاءت
الإرادة الكلية ولأسباب معينة أن يكون للإنسان بعضا المصائب:
(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)
الكهف:7
فإذا رضي
الإنسان بما قدره الله سبحانه وتعالى, من حياة أو موت, وصحو وسقم, وغنى وفقر,
وارتفاع وانخفاض, أو ما أشبه, كان مطمئن الخاطر في الحياة, مثابًا بعد الممات,
وإلاّ لم يحصل إلاّ الاضطراب في هذه الدنيا, والعقاب في الآخرة, ولذا يلزم على
الإنسان أن يدرب نفسه على الرضا, وينمي في نفسه هذه الملكة الشريفة.
وليس معنى
الرضا الاستسلام والكسل وعدم العمل, بل معناه: أن يعمل الإنسان حسب المستطاع
وكما أمره الله في مختلف شؤون الحياة, ثم إذا جاء القدر لم يغضب ولم يسخط,
وإنما يتقبله بقبول حسن, حتى يُوفّى أجره غير منقوص.
الصبر:
الأشياء لها
موازين خاصة, ينبغي للإنسان أن يخرج عن تلك الموازين. فالصبر اعتدال في السلوك,
لا عجلة لسبب الخبال والزيغ, ولا تلكؤ يوجب الانحطاط والتأخر, مثلا, إن أسرع
الرجل في زواج ولده قبل البلوغ, كان عجلة, وإن تأخر الزواج لبعد البلوغ بسنوات
كان تفويتًا للأوان, أما إذا تأخر الزواج ليختار الزوجة الصالحة, بصبر وروية,
فهذا هو الصبر المحبوب. وبعض الناس يزعم أنه ليس في عمل الخير صبر؟ وهذا غفلة
عن معنى الصبر, فالصبر ليس معناه التأخير, بل معناه الانتقاء والاختيار.
والصبر
بالإضافة إلى ما ورد فيه من الفضل في الآيات والأحاديث, فضيلة إنسانية تأتي
بنتائج مدهشة, في الإتقان وصحة العمل وإصلاح الفاسد, ولذا يلزم على الإنسان أن
يواظب على هذه الفضيلة, ويقوي ملكتها في نفسه.
وقد قسم
العلماء الصبر إلى ثلاثة أقسام:
1: الصبر
على الطاعة, كالصلاة والصيام والحج وإيتاء الزكاة وما أشبه.
2: الصبر
على المعصية كأن يصبر نفسه عن ارتكاب الجريمة واقتراف الحرام.
فالصبر على
المعصية, بأن لا يخرج, ولا يعمل عملاً ينافي الشرع أو العقل أو العرف, انسياقًا
وراء العاطفة.
3: الصبر
على البلاء.
هذا بعض ما
اردنا ايراده ومن اراد التفصيل مراجعة كتاب جامع المسائل الشرعية وفق فتاوى
المرجع الشيرازي دام ظله والامام الراحل اعلى الله درجاته. والحمد لله رب
العالمين.
|