صيام رمضان إستقلالية الإرادة وتهذيب الذات

alshirazi.net

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله المنتجبين..

وبعد: إن المجتمع ـ اليوم ـ يعالج صراعاً دائباً، في مجزرة الأعراض، والكرامات، نتيجة لضياع المبادئ والمثل، وتبعاً لإندفاعه اللاإرادي مع المطامع والأهواء، وسيراً في التقاليد المفترضة، والعادات المختلفة السخيفة.

لذلك إندلعت العواطف والشهوات، لتقضي على أصداء العقل والضمير.

وهذه الجرائم، التي أربكت الحياة، وشغبت على التاريخ والإجتماع، ناتجة من ضعف (الإرادة) التي لا تجرأ على مقاومة عوامل الشر والإغواء، ولا تستطيع أن تكفكف العواطف والشهوات.

لأن (الإرادة) هي القوة، التي تمكن الإنسان من أن يقول: (نعم) أو يقو (لا)، عندما تدعوه شهوات أو عاطفة، أو يسخره ظالم مستهتر، لخدمة أغراضه ومطامعه.

 

الإرادة والحرية:

فبـ (الإرادة) يكون الإنسان حراً في حياته، بحيث لا تستبعده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك عليه مصير إنسان، أياً كان ذلك الإنسان، وهكذا يكون سيّد نفسه، ويملك أن يريد أو لا يريد..فالأدب الذي يرشد الإبن الى ما ينبغي أن يفعل، وما لا ينبغي أن يفعل، والإبن الذي يتبع إرشادات أبيه، المعقولة، يسير في طريق قويم، الى أن يصل الى أهدافه في الحياة، بقدم ثابتة، ونجاح مضطرد، فإذا كان عامل العاطفة مسيطراً عليهما في أدواره تنشئته، مال الإبن الى (الدلال) ففسد وأفسد، وإذا كان عنصر الإرادة متحكماً في التربية نشأ الإبن عضواً نافعاً في الهيئة البشرية.

فوضيفة الإرادة في حياة الإنسان، هي وضيفة الظابط في المعسكر، إن الإرادة تكبت جماح الغريزة، وتخفف غلواء الحيوان الذي يعيش في عروق الإنسان فيثير شهواته وعواطفه، كما إن الظابط يقبظ المعسكر، فيمنع توتره وفضوله.

 

مدرسة الإرادة:

ولما كانت الإرادة تملك أن تقبض وأن تبسط حياة الإنسان، وتحدد شهواته وعواطفه، كان على الإسلام: أن يهتم بتكوين الإرادة للإنسان حتى يستطيع أن يطيع الإسلام، ففرض عليه الصوم، الذي هو مدرسة الإرادة ليحفظه من السخط والضياع، ويأخذ بيد المسلم من أن يستسلم للأحداث، أو يستخف ويستهين بالتبعات، فلا يركب رأسه ولا يجري في أعقاب كل غيٍّ وغاوٍ.

والصوم يؤدي الى تكوين الإرادة من ناحيتين:ـ

الاُولى: إن الصوم يحد من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية، والعبودية على الحرية، وترويض للإنسان، على أن يقول (لا)

عندما تدهمه شهوته الى الأكل أو الشرب، أو الإستمتاع، أو تدعوه عادته الى أحدهما.

ولتلاحظ نوعية الاُمور التي حرّمها الله على الصائم، وشدة علاقتها بحياته اليومية، ومدى هيمنة العادة عليها، لنعرف قوة عملية الصوم، وأثرها في تربية الإرادة فإنَّ رياضة النفس فيما هي من ضروريات الحياة، تجعل الإنسان أقوى على ترويض نفسه، للكف عما دونها.

وهنا ندرك: كيف ينتهي الصوم بالكفاح لأجل الحق والخير، فإن الكفاح إرادة الخير وإنطلاق لتحقيق تلك الإرادة مهما كلف الأمر.

وقد يؤدي البحث الى سؤال هو: (إن الصوم الى جانب كونه ترويضاً  للنفس لتربية (الإرادة)، عبادة الله، كبقية العبادات، التي يلتقي فيها الإنسان بربّه، فتتظائل إرادته وتذوب إزاء إرادة الله تعالى، وهل يمكن تقوية (الإرادة) بعرضها على التظائل والذوبان)؟

والجواب: (إن إرادة الإنسان، عندما تخشع أمام إرادة الله سبحانه وتعالى، لا تذوب لتموت، وإنما لتحيى وتدوم، فالإرادة الإنسانية، إذا إستقلّت في الوجود، تكون متهافتة قابلة للإنهيار أمام الزعازع والأهوال، ولكن إذا إنصهرت الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية، تعود الى الحياة أقوى ما تكن على مواجهة الأحداث في ميادين الصراع، حيث تتخذ من الإنضمام الى إرادة الله، مصدر قوة وثقة. لا يمكن أن يأتي عليها شيءٌ، ما دام إيمانه بالله مطلقاً، يعرف الله فوق كل إنسان وسلطان.

الثانية: إن الصوم حيث يطول أمده شهراً كاملاً، يغيّرـ هو والمستحبات التابعة له ـ برامج حياة الفرد، لأنه قد إعتاد في أيام السنة أن يتناول وجبات للطعام، في مواعيدها المعهودة، حتى يشعر بالضجر والملل، ولكنه حين يصوم، يقع مع عاداته في صراع عنيف، فالعادة التي ملكت عليه حواسه، وفتحت مجراها في سلوكه، تجذبه إليها في أوقاتها، مسلحة بقوة الشهوة الى الاكل أو الشرب أو الجنس، ولكنه يمضي في إرادته دون أن يلتفت إليها، فيمنعه عن الطيبات في أوقاتها، ويوفر عليه الطيبات في غير أوقاتها، وتبعاً لذلك، تتطوّر حياته كلها، فينام في غير وقته، ويعمل في غير دوامه، ويعبد الله أكثر من سائر الشهور، ويجتمع بالمسلمين أكثر من بقية المناسبات، ويحاول إتيان القربات أكثر من الأوقات الاُخر، وكل هذه التطورات، تأتي فجأة، مع بزوغ هلال شهر رمضان، فيجتمع للمسلم ـ الذي عاش حياته رتيبة ـ جهاد بالنهار على الصوم، لكبح نفسه ونوازعها وامنياتها، وجلاد بالليل للسهر على القربات، إحياءاً لضميره، وتنشيطاً لإيمانه.

ومن تدرب على أن يمتنع ـ بإختياره ـ عن شهواته ولذائذه، ثم يبقى مصراً على الإمتناع عنها في أوقات معينة، لا لشيء، إلا للإستجابة لأمر واحد من أوامر دينه، لابد أن تخر على أقدامه الأهواء والعادات، صرعى مغلولة، ويشعر بالنصر، الذي يحس به القائد المظفّر، فتخضع هواجسه وشهواته لفكره، منقادة للوازع النفسي، مذعنة بالحس الديني، المسيطر على النفس ومشاعرها.

 

عبادة الأحرار:

وما الحياة في مظاهرها الجادة، إلا عزم يؤثر الإقدام على الإحجام، وأهم الفرق بين الذين ينجون في أعمالهم وبين الذين يفشلون: إن اولئك يتحكمون الى إرادتهم، ويواجهون الحياة بعزم حديدي لا يعرف العجز والهزيمة، وهؤلاء تخور إرادتهم، أمام عادة أو شهوة، فيسقطون خانعين.

وممارسة الصوم ـ في شهر رمضان ـ لإبراز إستقلال الإرادة، تمرّن الصائم على إعتياد التحرر والإنعتاق، من أحابيل الغريزة ومكايدها، وترهف عزيمته وتشحذ مواهبه، وتستخرج ركائزه الدفينة، ليودعها مصرف روحانيته، ليجدد عنها ـ عند الشدائد ـ مدد الثبات والعزم والخشونة والجلد، حتى ينقلب الصائم بطلاً تتفجر أعصابه إيماناً ومضاءاً، فلا يذلّ ولا يخشع، ولا يستكين، وإنما يبقى كالجندي المعبأ، يتحفز ـ أبداً ـ للدفاع والوثوب.

لأن الإخلاص لله في العبادة، يعني ـ في جوهره وحقيقته ـ التحرر من الخضوع، لكل قوة من ـ دون الله ـ مهما بلغت، وبذلك كان الصوم، وسيلة لتحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، ومن عبودية العادات، والشهوات.