بسم الله
الرحمن الرحيم
لَمْ يختلف
اثنان على الحدث، وإنّما اختلفَ النَّاسُ في تفسيرِه، فكلّهم يروي قصّة يوم
الغدير بلا شكّ او تشكيك او ترّدد، كما أنّهم كلّهم يتناقل النصّ الذي ورد على
لسان رسول الله صلى الله عليه واله وهو يأخذ بيد أمير المؤمنين الإمام علي بن
ابي طالب عليه السلام قائلا: «منْ كنتُ مولاه فعليّ
مولاه»، كذلك بلا شكّ او تردُّد او تشكيك، إنّما اختلفوا في تفسيره،
فمِنهم من قال: (عادي، ابن عمّه)، وآخرون قالوا: (عادي، لتطييب خاطِره) امّا
انا فأقول: انّه اليوم الذي امتدّت به الرسالة لتعبر حدود الوحي إلى يوم
القيامة.
انّه يوم
امتداد مكارم الأخلاق التي بُعث رسول الله صلى الله عليه واله لإتمامها بقوله:
«إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخلاقِ»،
وعلى رأسها العدل والرحمة والإنصاف.
والإمامة
كالنبوّة لا يلغيها التنحّي عن السلطة، فالنبيُّ يبقى رسولاً سواء كان في مكة
او في المدينة، خارج السلطة او في الحكم، كذلك الإمامة، فعليّ الْوَصِيِّ لا
يلغي إمامته أكان في السلطة او خارجها، لان الأصل في القضية هو التبليغ الذي
لَنْ يتغيّر بكل مؤثّرات الدّنيا، فقال تعالى: (وَإِذِ
ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[1].
إذن؛ هي
أمرٌ من الله تعالى وجعلٌ منه كما تحدّث القران الكريم عن ذلك بقوله عز وجل:
(وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[2]،
ولذلك لا ينبغي الخلط بين الإمامة والسلطة، كما يظنُّ البعض أنهما متلازمان،
فإذا أُلغيت واحدة أُلغيت معها الثانية بشكل طبيعي، أبداً.
إنّ يَوْمَ
الغدير امتدادٌ طبيعي ليومِ الرّسالة، فعليٌّ الذي يتحدث عن علاقته وموقعه من
رسول الله صلى الله عليه واله بقوله: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ
مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه واله ـ بِالْقَرَابَةِ
الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا
وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي
جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَه، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ
يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي
فِعْل»، ويضيف: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ
اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً
مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ»، وهو الذي يقول عن
نفسه: «وأَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ
الضَّوْءِ والذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ»، هو بابُ علمهِ فما كان عِلْمُ
رسول الله صلى الله عليه واله ليمتدّ لولا علي عليه السلام وهو القائل:
«علّمني حبيبي رَسُولُ الله الفَ بابٍ من العلمِ، يُفتحُ
لي من كل بابٍ الفَ باب».
في يوم
الغدير ينبغي ان لا نجادلَ في الحدث جدالنا بالعلم العلوي والعمل الصالح والعدل
العلوي، والا فسنتيهُ بجدالٍ عقيم لن ينتهي، وننشغلَ بالفروعِ عن الأصول، فبعد
ان امتدّ الجدال (١٤) قرنا لحد الآن سيمتد قروناً وقروناً إلى ان يرث الله
الأرض ومن عليها لازال على وجه الأرض من يُكابر ويعُاند ويرفض الاحتكام للعقل
والمنطق، وصدق أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال:
«لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي
مَاأَبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ
عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي: وَذلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى
عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الاُْمِّيِّ ـ صلى الله عليه واله ـ أَنَّهُ قَالَ:
[يَا عَلِيّ] لاَ يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ».
إن الذي
يُبغضُ علياً يُبغض العلم والعدل، كما انّ الذي يوالي علياً إنما يوالي العلم
والعدل، انه الفاروق الذي يفرق بين العلم والجهل، بين الظلم والعدل، ولو انّ
الدّوابّ التي تفجّر نفسها في الأبرياء، ولو انّ القتَلة الذين يتلذّذون بمناظر
الرؤوس المعلّقة في الشوارع والحدائق العامّة وبمنظار حزّ الرقاب وجلد الحرائر
أمام الناس، لو انهم احبّوا علم عليّ وعدله لما ارتكبوا مِثْلَ هذه الجرائم،
ولكنهم افتخروا بجرائم (خالهم) الطاغية الأرعن والظالم الأهبل حفيد حمامة صاحبة
الرّاية في الجاهليّة وابن هند آكلة الأكباد وأبو سفيان زعيم المشركين وقائد
القتلة والمحاربين المعاندين معاوية، ولذلك تراهم يبذلون كلّ ما في وسعهم
لتقمّص شخصيّته في كلّ شيء، في الظلم والعدوان والقتل والغارات والتضليل وفي
بقر بُطُون الحوامل وحز الرقاب والاغتيال والغدر والفجور وفي كل شيء.
لقد كتبَ له
الامام عليه السلام مرة: «وَلَوِ آعْتَبَرْتَ بِمَا
مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ»، وهو الأمرُ الذي ينطبقُ الْيَوْمَ على هذا
الجيل الذي يُكرّر نفس الجرائم منطلقاً من نفس العقليّة ومستخدماً نفس الأدوات.
انّهم لَمْ
يعتبروا بالتاريخ ففرّطوا بالحاضر والمستقبل، لانّ التاريخ مرآة صافية لا يشوّه
صُوَرها الا العناد والمكابرة واتّباع الاهواء والشهوات والأنانيات الضيّقة،
والا ما الذي يحرّض هذه الدوابّ المريضة على تدمير شعوب عريقة ومتجذّرة في
ارضها ووطنها وبلدها كالمسيحيّين والايزدييّن والشبك والتركمان، وأمثالهم، اذا
كانوا أسوياء العقول لا تتحكّم فيهم الأهواء والأنانيات المريضة والكراهية؟ ما
الذي يحرّضهم على حزّ الرّقاب والتطواف برؤوس الضحايا والعدوان على أموال الناس
وأملاكهم والاعتداء على الحرائر، اذا لم يتقمّصوا شخصيّات أسوء نماذج التاريخ،
معاوية وابنه يزيد ومن لفّ لفّهم؟ يزيد هذا الذي قال عنه الحسين عليه السلام:
«إنا لله وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام إذا
ابتُليت الأمّة براعٍ مثل يَزِيد، ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان».
لن يتغيّر
الحال اذا لم نغيّر النماذج، ولن يتغيّر الحال اذا لم نستبدل الطالحة بأخرى
الصالحة، وهل أفضل من عليّ نموذج وأسوة وقدوة؟.
كيف يتغيّر
الحال اذا كان نموذجهم بعض ما وصفه ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) بقوله:
«وأوّل دورٍ انتُهبت والحرب قائمة دور بني عبد الأشهب، فما تركوا في المنازل من
أثاث ولا حلي ولا فراش إلا انقض صوفه، حتى الحمام والدجاج كانوا يذبحونها».
انّه
العَناد والمكابرة التي تحول دون المرء وعقله وضميره والانصاف.
|