بماذا عالج الإمام السجاد عليه السلام مشكلة الأمة؟

نزار حيدر

:. لماذا ارتكبت الأمة جريمتها المروعة في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة، بقتلها سبط رسول الله صلى الله عليه واله وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام؟ ما الذي حصل لتشهد الأرض وقتها، مثل هذه الجريمة البشعة؟ وماذا حدث في الأمة لترتكبها؟

وما الذي حصل على مستوى السلطة ليأمر الطاغية يزيد بن معاوية حفيد آكلة الأكباد، أزلامه وزبانيته ليرتكبوا هذه الجريمة بحق العترة الطاهرة؟.

إذا تصفحنا سيرة الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب السجاد زين العابدين عليه السلام والذي تصادف ذكرى استشهاده في 25 محرم الحرام، وما تميزت به عن غيرها من سير أئمة أهل البيت عليهم السلام، فسنجد الجواب واضحاً لا لبس فيه.

انه عليه السلام اهتم بأمرين في غاية الأهمية، الأول: هو الدعاء، والثاني: هو رسم وتحديد معالم الحقوق.

هذا يعني أن الأمة التي:

الف؛ تنسى الله تعالى وتبتعد عن السماء.

باء؛ تتجاوز الحقوق والحدود والقوانين.

إن مثل هذه الامة سترتكب افضح الجرائم وأبشعها، وهذا ما حصل في يوم عاشوراء، فالأمة وقتها: (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فتجاوزوا على الحقوق والحدود والقوانين، ما أعمى بصرهم وبصيرتهم ليقدموا على جريمتهم النكراء في يوم عاشوراء.

ولان الإمام السجاد عليه السلام عاش المرحلة بكل تفاصيلها، ولذلك كان واعياً جداً ودقيقاً في تحديد عمق المشكلة التي كانت تعيشها الأمة آنئذ، ولهذا السبب حاول جاهدا:

أولاً: إعادة الأمة إلى ربها من خلال الدعاء الذي يصفه المعصوم بأنه الحبل الممتد من الأرض إلى السماء، والذي يوازي القرآن الكريم، وهو الحبل الممتد من السماء إلى الأرض، فبالدعاء يناجي العبد ربه ويعود اليه، وبه يستعيد توازنه الأخلاقي والاجتماعي والديني من خلال الاعتراف له عز وجل بالخطأ والإثم، ما يساعد الإنسان في إعادة النظر في سلوكياته، وتالياً يساعده في تحسين أدائه من جديد.

الثاني: توعية الإنسان الفرد والإنسان المجتمع بحقوقه وتعليمه كيف يتصرف بها من خلال تعليمه بداياتها ونهاياتها، فيتعلم كيف يحمي حقوقه وحقوق غيره، ويدافع عن حقوقه الشخصية وعن حقوق الأمة.

والحقوق كما نعرف هي الحدود والقوانين التي ترسم نوع العلاقة بين الناس في المجتمع الواحد، من جانب، وبين الراعي والرعية من جانب آخر، وقبل كل ذلك بين العبد وربه، فإذا نسيها المجتمع، أي مجتمع، فستعم الفوضى فيه وتطغى على علاقاته قوانين الغاب، ولذلك فعندما نسيت الأمة في عهد الإمام الحسين عليه السلام حقوقها وحدودها وقوانينها، نزا على السلطة راع أحمق وقاتل النفس المحترمة وشارب للخمر ومعلن بالفسق والفجور مثل الطاغية يزيد بن معاوية، وعندما تجاوز الناس بعضهم على حقوق البعض الآخر، أطاعوا الطاغية يزيد الذي قادهم الى قتل سبط رسول الله صلى الله عليه واله وهو يردد أبيات ابن الزبعرى:

لعبت هاشم بالملك فلا         خبر جاء ولا وحي نزل

وعندما تستمر الأمة ترتكب أبشع الجرائم باسم الدين وباسم رسول الله صلى الله عليه واله وباسم الله تعالى، فان ذلك يشير الى ابتعادها عن الله تعالى من جانب، وعن جهلها بالحقوق والحدود والقوانين التي يجب ان تحكم علاقاتها مع بعضها من جانب آخر، والا ماذا يعني ان يقتل الإنسان في بلاد المسلمين على الهوية والانتماء المذهبي؟ وماذا يعني ان يصدق الإرهابي، وباسم الدين، انه اذا قتل عشرة من الشيعة فسينال الشهادة فوراً والتي تؤهله لحضور مأدبة عشاء مع رسول الله صلى الله عليه واله في جنان الخلد؟

وماذا يعني ان تغسل فتاوى التكفير التي تصدر من علماء السوء القابعين في بلاط أسرة آل سعود الفاسدة الحاكمة في الجزيرة العربية، أدمغة الشباب، وفي القرن الواحد والعشرين، ليتجمعوا في العراق مثلا او في سوريا ليقتلوا الأبرياء ويدمروا البلاد وخيراتها بحجة الجهاد وبذرائع المقاومة؟ في الوقت الذي يفترض فيه ان نرى مثل هؤلاء الشباب يملأون المدارس والجامعات لينافسوا زملاءهم في الدراسة وطلب العلم والتطور المدني؟.

لقد ورثنا من الإمام السجاد عليه السلام سفراً عظيماً من نصوص الدعاء وفي مختلف المجالات الحياتية، بما يرسم لنا معالم حياة حرة وكريمة، فهي لم تقتصر على الجانب الروحي فقط، وإنما شملت كذلك جوانب الأخلاق والاجتماع والاقتصاد والعلوم الحياتية والأدب والمعارف الإلهية والفسلفة والتوحيد والعدل والمعاد والنبوة والإمامة وكل شيء، ما يثير الإعجاب حقاً عند العدو قبل الصديق، وذلك في إشارة إلى عظمة شخصية الإمام الذي ارتعدت من خطابه فرائص الطاغية يزيد، فمنعه من صعود المنبر ليخطب في الناس لولا الضغط الهائل الذي مارسه عليه الحاضرون ما اجبره على أن يأذن له، فكانت خطبته العصماء التالية التي هزت مجلس الطاغية المنتصر عسكريا والمنهزم معنوياً:

قال عليه السلام، مخاطبا الحضور في مجلس الطاغية يزيد في قصر الإمارة في الشام:

«أيها الناس: أعطينا ستاً و فضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين‏، وفضِّلنا بأن منا النبي المختار محمداً ومنا الصديق ومنا الطيار ومنا أسد اللَّه وأسد رسوله ومنا فاطمة الزهراء ومنا سبطا هذه الأمة ومنا مهديها، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أيها الناس أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبَّى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من ‏بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه‏ الجليل ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن ‏من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا اللَّه، أنا ابن من ضرب بين ‏يدي رسول اللَّه بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع‏ البيعتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر باللَّه طرفة عين، أنا ابن صالح‏ المؤمنين ووارث النبيين وقامع الملحدين  ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكاءين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب للَّه ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي اللَّه على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين اللَّه وولي أمر اللَّه وبستان حكمة اللَّه وعيبة علمه‏، سمح سخي بهي بهلول زكي أبطحي رضي مقدام همام، صابر صوّام‏ مهذب قوّام، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب، أربطهم عنانا و أثبتهم‏ جنانا وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة، أسد باسل يطحنهم في‏الحروب إذا ازدلفت الأسنة وقربت الأعنة طحن الرحى و يذروهم‏ فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق، مكي مدني خيفي‏ عقبي بدري أحدي شجري مهاجري، من العرب سيدها ومن الوغى‏ ليثها وارث المشعرين وأبو السبطين الحسن والحسين ذاك جدي‏علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سيدة النساء.

فلم‏ يزل يقول أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد، لعنه‏ اللَّه، أن يكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام فلما قال المؤذن: اللَّه‏ أكبر اللَّه أكبر، قال الإمام: لا شي‏ء أكبر من اللَّه، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه‏، قال الإمام: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلما قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسول اللَّه، التفت الإمام من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ولؤمت، وإن زعمت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟».

أما سفره الموسوم برسالة الحقوق، فحدث عنها ولا حرج، فلقد فصّل فيها الإمام عليه السلام الحقوق على المستوى الفردي والاجتماعي، وعلى مستوى العلاقة بين العبد وخالقه، والراعي ورعيته، ولم يغفل عليه السلام حقوق المجتمع بكل ألوانه وانتماءاته وخلفياته الدينية والمذهبية والأثنية وغيرها، على اعتبار ان الوطن خيمة كبيرة وواسعة يستظل بظلها كل المواطنين من دون استثناء او تمييز، فقال عليه السلام:

«وأما حق أهل الذمة، فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم اليه فيما طلبوا من أنفسهم واجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله حائل، فانه بلغنا انه قال: من ظلم معاهداً كنت خصمه، فاتق الله، ولا قوة إلا بالله».

فلو أن الأمة التزمت بهذه الحقوق والحدود والقوانين لما ظُلم مواطن، ولما استُبيحت كرامة، ولما ضاع طفل، ولما خيم الجهل والتخلف والأمية على سماء البلاد، ولما انتشر الفساد المالي والإداري، ولما قتلت المحاصصة طاقات الناس الخلاقة، ولما بخس مواطن حقه في التعليم والعمل وتبوء المكان المناسب من قبل الرجل المناسب، ولما شهدنا كل هذا التقاتل بين أبناء البلد الواحد، ولما خيم التمييز الطائفي والاثني.

إن حال اي مجتمع لا يستقيم الا بالقانون، فاذا غاب عن الواقع وضيعه الطاغوت، سادت الفوضى فيه، وفي هذه الحالة ينبغي على المجتمع ان يراعي حقوقه بنفسه، فلا يظلم احد أحداً، ولا يتجاوز احد على حقوق احد، افلا يكفي ظلم السلطة للمجتمع ليظلم المجتمع بعضه بعضاً؟ فيتضاعف الظلم ويتورط الناس بما تورط به الحاكم الجائر، فيعم الفساد السلطة والمجتمع، وتسحق الحقوق والحدود والقوانين من قبل السلطة والمجتمع؟ فان ذلك ما يضاعف من المشكلة ويعقد الحلول.

تعالوا، إذن، نتعلم حقوقنا، الشخصية منها والاجتماعية، من اجل:

1ـ ان نلتزم حدودنا فلا نعتدي على احد ولا نتجاوز على حقوق الآخرين.

2ـ ان نطالب بها ونسعى للتمتع بها، فإذا كانت عند السلطة نطالبها بالوفاء بها وتحقيقها، وإذا كانت عند المجتمع، فنعظه ليمنحنا إياها، واذا كانت عندي لغيري أقدمها عن طيب خاطر فلا أتزمت بما يخصني من حقوق وأتجاهل او اتماهل بها اذا كانت عندي لغيري.

3ـ ان نتواصى بإقامة الحقوق، فنفضح السلطة اذا تجاوزت على حق احد، ونكشف عن حقيقة مواطن اذا ما ظلم مواطن آخر، فالمجتمع الذي لا يتواصى بالحقوق، تغيب عنه الرحمة والرأفة، فما بالك برحمة الله تعالى الذي يقول في محكم كتابه الكريم: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)، وقوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).

لقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الحقوق بقوله في خطبة له بصفين:

«أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ».