لقاء مع الأستاذ أبو أحمد محمد شريف

اللقاء: السابع والعشرون.

الشخصية المحاورة: الأستاذ أبو أحمد محمد شريف (الهند).

المكان: دمشق، حي الأمين، مكتب الشهيد الشيرازي.

التاريخ: 29/5/2005م ـ 20/ربيع الثاني/1426 هـ.

ا

تمهيد:

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على شمس الهداية نبينا محمد صلى الله عليه واله، وعلى الأقمار المضيئة الأئمة الطاهرين عليهم السلام .

وبعد فقد قال الحكيم في محكم كتابه الكريم، وقرآنه العظيم:

 (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب: 23.     صدق الله العلي العظيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في الحلقة الثانية من سلسلة إحياء تراث الشهيد السيد حسن الحسيني الشيرازيقدس سره  مؤسس الحوزة العلمية في سورية يسرنا أن نستضيف في هذا البرنامج وفي هذا الحوار الشيّق أحد المرافقين للشهيد الراحل الحاضر السيد حسن (رضوان الله تعالى عليه)، حيث عايشه في داخل مكتبه، وكان هو المسؤول عن أمور الإقامات والجوازات لطلاب الحوزة العلمية الزينبية في الدوائر الحكومية في الجمهورية العربية السورية حيث شغل هذا المنصب أكثر من ربع قرن من الزمان.

 

مع الضيف:

إنه الأستاذ محمد شريف أبو أحمد حيث نشأ وتربّى في مدينة كربلاء المقدسة في العراق، ثم انتقل إلى بغداد، وفي عام (1975م) انتقل إلى سورية حيث التقى بالشهيد الشيرازي الذي ألحّ عليه بالبقاء في هذا البلد المضياف والعمل معه.

في هذا الحوار وفي هذه المقابلة مع الأستاذ أبو أحمد نتعرّف على الشهيد عن قرب، نتوصل إلى بعض خصوصياته وتعامله، سواءً داخل مكتبه أو مع الآخرين.

فأهلاً وسهلاً بأبي أحمد في هذا اللقاء الكريم.

 أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وسلّمكم الله.

 

علاقة من القدم:

  السؤال الأول الذي أودّ أن أسأله إيّاكم، ما هي علاقتكم بالسيد الشهيد؟ متى بدأت هذه العلاقة؟ وكيف استمرّت؟

 بالنسبة للعلاقة فإنّ هذه العلاقة كانت قديمة وأبوية، فكان والدي من أصدقاء ومريدي ومحبّي الميرزا مهدي الشيرازي قدس سره  إلى درجة أنه كان يستشيره في كلّ شيء يقوم به، إضافة إلى ذلك فهناك صلات قربى بين والدي والميرزا مهدي الشيرازي قدس سره .

وكانت علاقتي بالسيد الشهيد قدس سره  جداً صميمية، فكان السيد كالمغناطيس يجذب القلوب، فكما أنّ المغناطيس يجذب الحديد كان الشهيد يجذبنا نحوه.

وعندما التقيت بالشهيد (رحمة الله عليه) بدمشق، طلب مني البقاء في سورية، وهذا قبل تأسيس الحوزة، فقال لي: ابق هنا. كما التقيت به في لبنان وطلب مني أيضاً البقاء والعمل معه.

وكان من الذين يتعاونون معه أيضاً في هذا المجال السيد محسن الخاتمي، والشيخ محمد صادق الكرباسي، والشيخ غلام رضا الوفائي الذي كان يصلي نيابة عن الشهيد في حال غيابه، وذلك في مقام السيدة رقية عليها السلام .

 

نصيحة اخوية:

  قلتم أنكم التقيتم بالشهيد الشيرازي هنا في سورية، وأنه ألحّ عليكم بالبقاء فيها، من أجل ماذا كان هذا الإلحاح؟ وما العمل الذي أسنده إليكم؟

 بالنسبة إلى العمل، فنحن طوع أمره ورهن إشارته، فكل ما يقوله السيد لنا لابد من الإطاعة والتنفيذ، هذا أولاً، وأمّا ثانياً فكلّما كنت آتي إلى هذا المكتب (مكتب الشهيد وبيته) من محلي الذي كنت أعمل فيه بالقرب من بيت الشهيد ومكتبه، وهو محل لبيع السيارات التي كنت أستوردها من ألمانيا، كان الشهيد يقول لي: لا تسافر وابق هنا، فهنا بلد إسلامي، وإن أخذت عائلتك إلى هناك (ألمانيا) ستواجه بصعوبات جمّة، فقلت له: سيدي لا أستطيع أخذ الإقامة السورية، فقال: إن شاء الله سوف ترفع هذه العوائق.

لقد كان (رضوان الله عليه) يؤلّف الكتب، وكان يأخذ بعضها إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد، وإلى الرئيس اللبناني الذي أهدى إليه كتابه القيم (كلمة الله)، فعندما قرأه تعجّب من كتابات هذه الشخصية، وأعجب بالسيد كثيراً، ولذلك وتقديراً لجهوده الخيّرة منحه الجنسية اللبنانية الشرفية.

 

مع الشيعة العويون:

وكان من أعزّ أصدقائه المرحوم السيد الرئيس حافظ الأسد، وشقيقه المرحوم إسماعيل الأسد، وشقيقه المرحوم جميل الأسد، والشيخ أحمد الخير، والشيخ عبد الرحمن الخير، وكثير من مشايخ العلويين، حيث وضع الشهيد برنامجاً أسبوعياً للاجتماع بهم في الأسبوع مرة واحدة، ورفع بعض الشبهات والرواسب التي تعلّقت بهذه الطائفة الشيعية في أذهان الناس، وسعى (رحمه الله) في بناء المساجد في مناطقهم الساحلية، فأصبح لهم عشرات المساجد، وكان المبادر في جمع علمائهم وأدبائهم في الاجتماع التاريخي الهام بمناسبة إصدار البيان الذي أعلن فيهم العلويين الشيعة أنهم من شيعة أهل البيت عليهم السلام ، ووقّع عليه أكثر من ثمانين عالماً منهم، وطبع البيان مع مقدمة للشهيد بكتاب خاص تحت عنوان (العلويون هم شيعة أهل البيت عليهم السلام )، كان له الصدى الواسع في كلّ الأوساط الإسلامية، وفي الكتاب المذكور يؤكّد هؤلاء العلماء بأنهم على عقيدة الشيعة الإثنا عشرية، وهم يرجعون إلى هذا المذهب بالنسبة إلى المعاملات والعبادات.

وكان (رحمه الله) يجتمع بعلماء هذه الطائفة الشيعية هنا بدمشق أو كان هو الذي يذهب إليهم في الساحل، فقد كانوا يأتون إلى هذا المكتب المتواضع ويلتقون بالسيد.

 

البرنامج اليومي:

 وعندما يكون على مائدة الطعام ويخبره بأن فلاناً من العلماء والمشايخ قدم إلى المكتب يقول للحاج أحمد: ارفع مائدة الطعام. فكان يقطع طعامه ويأتي إلى صالون الاستقبال ليستقبل الضيوف والعلماء من الصباح في الساعة التاسعة إلى صلاة الظهر، حيث يغادر المكتب متوجّهاً إلى مقام السيدة رقية عليها السلام  لكي يؤدي صلاة الجماعة، وبعد انتهاء الصلاة يأتي إلى هنا (المكتب) الذي كان يمتلئ ويغصّ بالضيوف، فكان يستقبلهم برحابة صدر، ويجلس معهم على مائدة الغداء، ولكنه لا يأكل إلا القليل، وفي الحقيقة فإنّ طعامه وشرابه ليس إلا الشاي والدخان (السيجارة)، حتى أننا في بعض الأحيان كنا ونأتي بأنواع الفواكه والحلويات، فنقول له: تفضل يا سيدي. فيقول لنا: هذا هو دوائي. ويقصد الشاي والدخان (السيگارة).

وكان يأكل لقيمات، ثم يقوم ويتمشّى في الصالون الصغير الموجود في المكتب، وهو يطالع ويقرأ، إلى أذان الصبح، فيصلي، ثم يخلد إلى الراحة، ويقول لي: إذهب إلى بيتك واخلد للراحة. فأقول له: من الممكن أن تحتاج شيئاً. فيقول: لا أحتاج شيئاً.

 

الخصال النادرة:

   ماذا كانت الخصوصيات الأخلاقية للشهيد أرجو التحدث عن هذه الناحية؟

 في هذه الناحية كان (رحمه الله) يختلف عن بقية الناس، فالبعض عندما تأتي إليه وتقول له: السلام عليكم. يجيبك ويرد السلام. وأما بالنسبة للشهيد فليس فقط يرد السلام، وإنما يجيبه ويسأل عن أحواله وأحوال أهل بيته، ثم يقول له: إن شاء الله الأمر الذي عزمت عليه سيحلّ بإذنه تعالى. فهذه بعض الخصوصيات التي هي غير موجودة عند أحد.

وكان يأتيه بعض الذين يحملون في قلبه الضغينة والحسد، مثلاً كان يقول له: كنت أصلي في مقام السيدة زينب عليها السلام   في الصيف في الصحن فأرى أنّ الشيعة يضعون تراباً ويسجدون عليها، فيذهب إلى شيخه ويحدّثه بأنّ هؤلاء الشيعة يسجدون على الأصنام، فيأتي ذلك العالم ليناقش السيد بشأن ذلك، فيقول له السيد: تعال إلى البيت. فيأتيه ذلك العالم إلى مكتبه، فيتناقش معه حول هذه الأمور العقائدية، وبعد الاجتماع يقول ذلك العالم بأنه قد سمع كل شيء بالمقلوب ويعتذر ممّا بدر منه، ويقول: إذا كان الشيعة هكذا فأنا أيضاً أصبحت شيعياً، فيصبح الذي يكرهه ويحقد عليه ويحسده من المحبين له والمعجبين به، ويحب أن يكون معه دائماً، ويصبح من المدافعين عنه.

فهذه بعض الأخلاقيات التي كانت غير موجودة عند أحد.

 

الشخصية الفذة:

  أبو أحمد من خلال معاشرتكم للشهيد كيف تقيّمون شخصيته الذاتية وعبقريته العظيمة؟

 أنت كما تقول عظيمة فماذا أقول أنا، فهل هناك أعظم من العظيم، لأنه فعلاً عظيمة هذه الشخصية، من الناحية الأخلاقية ومن نواحي عديدة.

في أحد الأيام كنت أنتظر في منطقة السيدة زينب عليها السلام  فجاء أحدهم، ووقف أمامي مخاطباًَ لي: إنني سأخرج عينيك بهذا السيخ. فنظرت إليه لأرى مع من يتكلم هذا الإنسان. فأشار إليّ وقال: معك أنت.

فقال السيد: قل له الله يعطيك العافية.

أين مثل هذه الأخلاق؟ فعلاً الإنسان في مثل هذه الحالة يفقد أعصابه. وتبيّن لنا فيما بعد أن الشخص المذكور كان من المناوئين للشهيد ومن الحاسدين والحاقدين عليه.

 

قصص وذكريات:

   أرجو أن تنقلوا لنا بعض القصص والخواطر التي تخصّ الشهيد في مختلف جوانب الحياة؟

 كان عندنا موظفٌ عامل قبل الحاج أحمد يعمل في المكتب وذلك في أوائل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وقد اشترى مذياعاً (راديو) كبيراً، فكان يريد أن يفتح على موجة إيران فلا يستطيع، فكان يستمع إلى الأشرطة عبر المسجلة، وفي أحد الأيام جئت إليه وسألته: ماذا سمعت من الأخبار عبر هذا الراديو؟

وعندما جاء السيد في المساء، قلت له: اسأل هذا ماذا سمع من الأخبار؟ فجاء السيد إليه، وقال له: ماذا سمعت من الأخبار؟ قال: من الغد إن شاء الله سأقول لكم. وفي اليوم التالي سأله السيد، فذهب وجاء بالراديو، وقال: إنّ كل الأخبار قد سجّلتها في هذا الشريط. فوضع الكاسيت في المسجلة وكانت فيها خشخشة لا يفهم منها شيئاً، فقال السيد لأبي فاضل: لا نفهم شيئاً ما يقول قارئ نشرة الأخبار. فقال أبو فاضل: وهل أنا الذي أعرف أن أقرأ وأكتب أم أنتم؟!!

 

حج دبلوماسي:

وفي إحدى الأعوام اقترح السيد علينا بأن نذهب إلى الحج، وكان برفقتنا المرحوم الشيخ أبو الفضل أحمد الخير، والمرحوم إسماعيل الأسد، والسيد محسن الخاتمي، وبعد حصولنا على الفيزا رنّ جرس التلفون من القصر الجمهوري وذلك من قبل السيد الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي يقول فيه:قمنا بإرسال برقية إلى الملك السعودي لكي تكونوا في ضيافته وسوف تسافرون عبر الطائرة. فاعتذر سماحة السيد وقال: أنا لا أستطيع أن أتجوّل في السيارات الخاصة السعودية، وإنما أريد أن أتجول وأزور البعثات بنفسي ولا أريد أن أتقيد بالبروتوكولات، ولذلك قرّر السيد وبرفقته إسماعيل الأسد والشيخ أحمد الخير أن يذهبوا جواً وعلى نفقتهم الخاصة، وأنا والسيد محسن الخاتمي نغادر براً، فعندما عبرنا الحدود الأردنية ووصلنا إلى منطقة تبوك السعودية كانت السيارة تتأرجح قليلاً فوصلنا إلى كومجي لتصليح إطارات السيارات، فعندما فحص الميكانيكي السيارة قال: لابد من تغيير الإطارات. فغيّرنا الإطارات ثم مشينا قليلاً، بعد أن عبرنا منطقة تبوك بعدة كيلومترات. وإذ انكسر العمود الواصل بين الإطارين، وانقلبت السيارة، وكان السيد الخاتمي بجانبي، وكان يلبس ثياباً (دشداشة) بيضاء اللون والدم يغطّيه، وأما أنا فأخرجوني من السيارة بعد جهد جهيد عبر نافذتها المكسورة، فحملونا إلى سيارات الإسعاف وأرجعونا إلى مستشفى في تبوك، وبعد الفحوصات أجروا للسيد الخاتمي عملية خياطة 23 إبرة في رأسه، وأما أنا فتبيّن بعد الفحص أن عظم كتفي الأيسر وإحدى أضلاعي مكسورة فلا يمكن تضميدها بالجبصين، ولذلك فقد أبقوني نائماً وممدّداً على السرير.

 

حج على السرير:

 وجاء في اليوم التالي مدير المستشفى وقال: عليكم بالذهاب للحج لأننا في كل عام والكادر الطبي في المستشفى ننقل خدماتنا إلى الديار المقدسة، فانتقلنا إلى مكة وإلى أقرب فندق فيها، وطلبنا طعاماً وما أن هممت بوضع لقمة الطعام في فمي لم يتحرك فكّي، ولم أستطع الأكل، وكذا الأمر بالنسبة للسيد الخاتمي فبقينا ذلك اليوم جائعين، ثم اقترح عليّ السيد الخاتمي بالذهاب إلى بعثة السيد الشهيد، فغادرنا الفندق والتحقنا بالبعثة، فرحّبوا بنا وفرشوا لنا في إحدى الغرف وبتنا فيها، وكان أحد الأشخاص وهو الحاج عبد الرسول القاري يأتي إلينا ويسهر على راحتنا، وفي اليوم الثاني جاءنا وفد من قبل وزارة الصحة السورية الموفدة لخدمة الحجاج السوريين، برئاسة أحد الأطباء باسم الدكتور عبد الله عيسى يعرفه السيد الشهيد، وبعد الفحص قال للسيد: إنهما يحتاجان للفحوصات والأشعّة، وبعد إجراء هذه الفحوصات تبيّن الكسر في كتفي وضلعي. وبعد ذلك قاموا بإجراء الفحوصات اللازمة لبطني وأضلاعي، وكان الشهيد يطلّ علينا ويسأل عن حالنا بعد فينة وأخرى، ويوصي الأصدقاء بالاهتمام بنا. وقرّرنا بعد ذلك بأن نذهب لإحياء شعائر الحج وذلك بالجلوس على العربات التي يحملها بعض الأشخاص بين الصفا والمروة وغيرها من الشعائر، والحمد لله فقد استطعنا أنا والسيد الخاتمي من أداء هذا الواجب وبالأخص وأنا كنت في السنة الأولى لأداء هذا الواجب، ورجعنا إلى سورية، وعندما وصلنا قال السيد لي: أنت لابد أن تبقى هنا نائماً وتستريح. والحمد لله وبعد استراحة أيام كنت على رأس عملي.

وكان حديث سماحة السيد الشهيد دواءً، فإذا تكلم معي أو مع أيّ إنسان آخر (كان حافظاً للقرآن الكريم)، يستشهد مباشرة بالآيات الكريمة، وأنت عندما تسمع حديثه تنسى أوجاعك وهمومك، فكان أعجب من العجائب، فأنا لم أر مثله لا قبله ولا بعده كشخصيته وأخلاقه وكرمه.

 

انقلاب الخصومة:

  كيف كان يتعامل الشهيد مع خصومه؟

 هو أولاً الخصوم لم يكن يعتبرهم خصوماً، فهو عندما يأتيه أحدهم (كهؤلاء الخصوم) يستقبله بكل رحابة صدر، وبابتسامة، وبترحيب حار و يتحدث معه بكل طيبة، ثم يعرج على الآيات القرآنية الشريفة التي تتحدث عن المساواة والتعايش والتنوع بين بني البشر، ثم يقول له: فلا فرق هناك بين زيد وعمرو ولا بيني وبينك، فكان يتحدث معه خلال دقائق ببعض الأحاديث الشيّقة، فينقلب هذا الخصم من الخصومة إلى الصّداقة، ومن العدو إلى الرفيق، ويأتي إلى السيد باستمرار ليستمع إلى حديثه أو خطابه.

 

يوميات الشهيد:

  بالنسبة إلى مأكل وملبس ومشرب السيد، كيف كان؟ وماذا كان؟

 بالنسبة إلى سكن السيد كان يقضي ثلاثة أيام من الأسبوع بدمشق، وثلاثة أيام في بيروت، وخلال تواجده في دمشق لا يأكل ولا ينام إلا قليلاً، فبعد أن يتناول قليلاً من الطعام في المساء يسير في الصالون ليهضم الطعام، وخلال سيره كان يقوم بالمطالعة والقراءة، وبعد أن ينهضم يجلس في مكتبه على الأرض ويبدأ بالكتابة، ويستمر في الكتابة إلى أذان الصبح، وبعد أن ينتهي من صلاة الصبح إذا رأى شيئاً ضرورياً في الكتابة أو البحث يكمل ذلك الشيء ثم يستريح وينام إلى الساعة التاسعة صباحاً، ويقول للحاج أحمد: أيقظني في الساعة التاسعة.

 

توكل على الله:

  الشهيد السيد حسن مع أنّ الملايين كانت تصل إليه كيف كان يعيش زاهداً حتى أنه لا يملك أجرة التاكسي، فيقول لأحد المشايخ: أقرضني خمس ليرات لكي أدفع أجرة السيارة؟ كيف كان يعيش الزهد في هذه الناحية؟

 كان السيد (رحمه الله) عندما يأتونه بالمال يسأل هذا المال، لأجل ماذا؟ ولا يتصرف به أبداً بل يعتبرها أمانة هذا أولاً، وأما ثانياً فعندما يأتيه المحتاج ويطلب منه فإنه رأساً يعطيه، وفي بعض الأحيان عندما كان يأتي من لبنان وتوصله السيارة إلى المكتب كان لا يملك نقوداً، فيقول لنا: ادفعوا أجرة هذه السيارة. وفي مرة من المرات قلت له: سيدي هذا لا يمكن فمن المحتمل أن لا يكون أحد في المكتب. فقال: أنا ذهبت إلى الحج في السنة الماضية وكنت لا أملك شيئاً من النقود.

نعم هذا هو اعتقاده الكبير بالله، ونيته الصافية له سبحانه، فكل المصاعب تزول أمامه.

وكان قدس سره  كثير الاهتمام بالآخرين، فعندما يأتيه محتاج وكان لا يملك شيئاً يقول لي: ادفع لفلان.

 

الاخرين اولاً:

وكان (رحمه الله) لا يهتم بنفسه أبداً، سواءً أكل أم لم يأكل، نام أم لم ينم، ولا أتصوّر أن يكون له مثيلاً اليوم، الذي ترك النوم وترك الأكل وترك الشراب والملذات. وكان أهم شيء عنده هو السيگارة والشاي .

في يوم من الأيام جاءه السيد مهدي الكسّار، وكان جالساً في مكتبه والسيد في مقابله، وكان طلبة العلوم الدينية قد اجتمعوا في المكتب بين يدي السيد أيضاً، فقال السيد مهدي: سيدي كل ما تكلفوني به أقوم به، ولكنني أفكر أن أكون في خدمتك وأن تتزوّجوا أنتم. ابتسم السيد وقال: الفكرة لا بأس بها، ولكنني أنا ماذا أريد؟ قال: ماذا تريد؟ قال الشهيد: هل ترى هؤلاء طلبة العلم أريد أن تسعى في زواجهم، وأخيراً أنا.

لقد كان طبيعته أنه كان يهتم بالآخرين أكثر ما يهتم بنفسه.

 

نشاطات الشهيد:

  الأخ أبو أحمد الشهيد الشيرازي كان دائم التردّد إلى الساحل السوري بدءاً من مدينة اللاذقية إلى القرداحة، وغيرها من المدن الساحلية إضافة إلى المدن اللبنانية كطرابلس وبيروت والقرى البقاعية والجنوبية، تستطيعون أن تذكروا لنا بعض النشاطات التي كان يؤدّيها الشهيد في تلك المناطق بدءاً من تأسيس الحسينيات والمساجد وغيرها من المؤسسات والنشاطات الشيعة؟!

 في الحقيقة كان له أصدقاء من العلماء العلويين كالشيخ يوسف صارم مثلاً، والشيخ أحمد الخير، والشيخ عبد الرحمن الخير، والشيخ يونس خدام، وكانوا يتردّدون على الشهيد ويجتمعون معه ويتحدّثون في مختلف الجوانب الحياتية والفكرية، ومنها تأسيس المساجد والحسينيات وشراء الأراضي في سبيل ذلك، وكان الشهيد هو الذي يضع حجر الأساس للبناء، وكانت مثل هذه المشاريع كثيرة جداً، وفي يوم الافتتاح يدعون السيد في التاريخ المحدّد، ليخطب في الجماهير المحتشدة.

 

احتفال رسمي:

وأتذكر مرة من المرات دعوا السيد في وضع حجر الأساس لإحدى المساجد في الساحل السوري، فقال لي السيد: استأجر لنا سيارة لنذهب إلى الساحل. فذهبنا مع وفد من الحوزة برفقته، وعندما وصلنا هناك رأيت احتفالاً مهيباً ورسمياً حيث دعيت إليه مختلف شرائح المجتمع والدولة، واستقبلنا بالأهازيج والطبول من الكشافة والجيش، فجلسنا وجلس السيد، فقام عريف الحفل، وكان يوم ذاك الشيخ المرحوم أحمد الخير، فبعد الانتهاء من قراءة آيات من الذكر الحكيم، قال عريف الحفل: وأما الآن فمع كلمة للسيد حسن الشيرازي. علماً أنّ السيد لم يكن مستعداً لإلقاء الكلمة ولم يهيئ نفسه لذلك. فجاء الشيخ الخير وجلس بجانب السيد وكنت أنا على يسار السيد. فقال للسيد: سيدنا لا يمكن ولابد من أن تلقي الكلمة. فقال السيد: أنا غير مستعد. فقال: سيدنا أنتم من أولئك الذين لا تحتاجون إلى التحضير. فقام السيد إلى المنصّة الخطابية، وبدأ كلمته ببسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ الآية الشريفة: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) التوبة: 18.

فبدأ بشرح هذه الآية أكثر من نصف ساعة، إضافة إلى ذكر الأحاديث الشريفة والروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام، وقد أدهش الجميع، وكان الأكثرية من الضباط وكبار قادة الدولة والجيش والشخصيات الرسمية إضافة إلى مئات المواطنين المحتشدين من مختلف المدن والقرى الساحلية، وبعد أن أنهى كلمته بدأت هذه الجماهير المحتشدة يصفّقون تصفيقاً حاداً من كثرة الحماس، وجميعهم كانوا يريدون أن يدعوه عندهم، بحيث أننا بعد سنوات ذهبنا إلى أركان الجيش بعد شهادة السيد، فعرّفني أحدهم إليه، وقال: هذا هو أبو أحمد. فقام الضابط المذكور وعانقني وبدأ يقبّلني وهو يقول لي: يا أبا أحمد أتتذكر الشهيد السيد حسن في ذلك الاحتفال المهيب، يعجبني أن أسمع صوته واشتقت إلى كلامه وحديثه وقد دعوته إلى البيت ولكنه لم يقبل الدعوة.

والشاهد أنّ كل من يسمع صوته، وكل من يسمع حديثه، وخطابه ينجذب إليه، لأن حديثه حلو كالدواء الذي يوضع على الجرح الموجود.

وأتذكر أن في مدينة صافيتا بنى الشهيد مسجداً وميتماً ومستشفى.

المهم أن السيد كان كله خير وبركة، بحيث إذا وضع يده على شيء لابد من الحل.

وفي ختام هذا اللقاء الشيق نشكر الأستاذ أبو أحمد على هذا اللقاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.