|
لقاء مع الشيخ عباس النوري
اللقاء: الثامن عشر. الشخصية المحاورة: الشيخ عباس النوري (أفغانستان). المكان: مكتب الإمام السيد صادق الشيرازي ـ حي الأمين، دمشق. التاريخ: 30/5/2005م ـ 22/ربيع الثاني/1426 هـ.
تمهيد: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على شمس الهداية نبينا محمدصلى الله عليه وآله، وعلى الأقمار المضيئة الأئمة الطاهرعليهم السلام. سرّنا في هذه الحلقة من سلسلة لقاءات حول الشهيد أن نقوم باستضافة أحد المرافقين الذين رافقوا السيّد الشهيد سنوات عديدة، وكان بحق مرافقاً أميناً مخلصاً، فكان برفقته (رضوان الله عليه) سواءً في الصلاة التي كان يقيمها الشهيد ظهراً في مقام السيّدة رقية عليهم السلام، أو الصلاة التي كان يقيمها مغرباً في مقام السيّدة زينب عليهم السلام.
مع الضيف: ولد في مدينة النجف الأشرف في العراق، ونشأ وتربّى فيها، وبعد التهجير القسري للعلماء عن النجف الأشرف اتجه إلى سورية حيث مقام السيّدة زينب عليهم السلام، وذلك في عام (1975م)، وظل فيها ملازماً ومرافقاً للشهيد حتى استشهاده. إنه المقريء صاحب السماحة والفضيلة الشيخ عباس النوري (حفظه الله). في هذا الحوار والمقابلة مع فضيلته سنتعرّف على الشهيد السعيد عن كثب، عن أخلاقه، عن خصوصياته، عن أدبه، عن فكره، عن منطقه.
الهجرة من العراق: ● ما هي علاقتكم بالسيّد الشهيد؟ كيف بدأت هذه العلاقة؟ وكيف استمرت؟
غربة السيدة زينب: وكان قدس سره يزور جميع رجال الدين القادمين من العراق بنفسه، ويطلب من كل واحد منهم فردا فردا البقاء بجوار السيّدة زينب عليها السلام، وكان يقول: إنّ السيّدة غريبة ولابد أن يكون في أطرافها رجال دين، وكان قدس سره يخطّط في تأسيس هذه الحوزة المباركة.
اول جماعة في الحرمين: وبعدما التقيتُ به طلب مني أن أكون مؤذّناً في مقام السيّدة زينب عليها السلام في صلاة الجماعة، فهو أول رجل دين بدأ بصلاة الجماعة في مقام السيّدة زينب عليها السلام ، وهكذا هو أول من أمّ صلاة الجماعة في مقام السيّدة رقية عليها السلام بدمشق، ولم يكن قبل الشهيد احدً يؤمّ الجماعة في المقامين المذكورين. وكانت مهمتي هي الأذان وقراءة الدعاء بعد الصلاة.
الطلب من السيدة زينب: وقد سمعت من الشهيد شخصياً عندما قال لي: قبل تأسيس الحوزة دخلت إلى مقام السيّدة زينب عليها السلام، وذلك الوقت كان الزائرون قلة، وبالأخص في وقت الشتاء، عندما دخلت كان الوقت مغرباً، وكان أبو علي (رحمة الله عليه) من خدّام المقام يهمّ بإغلاق الباب (الباب الداخلي للمقام)، فقلت له: يا أبا علي أراك تغلق الباب؟!! قال: نعم لأنه لا يوجد أحد من الزائرين وأريد أن أذهب إلى البيت للاستراحة، فاجابه السيد: ولكن أنا موجود. فقال: أهلاً وسهلاً. يقول السيّد: فدخلت إلى داخل المقام فلم يوجد أحد باستثنائي واستثناء السيّدة زينب عليها السلام، فزرتها وطلبت منها الدعم المعنوي والمادي والمساندة لتأسيس حوزة علمية بجوارها.
حوزة الامام الحجة:
وعلى كل حال.. بقينا عدة أشهر، وبعد ذلك بقيت سنوات كنت خلالها بمعيّة الشهيد، وأحياناً أبقى هنا في المكتب معه، وفي بعض الأحيان عندما كنت معه في سيارة التاكسي كان يضع عمامته إلى جانبه من باب الاحتياط، وذلك في الأشهر الأخيرة قبل الاستشهاد، وكان يبقى خلال الأسبوع أربعة أيام هنا في دمشق وثلاثة أيام في بيروت. وقد أسّس في لبنان حوزة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقام بتأسيس جماعة العلماء. وكان يقوم بتدريس تفسير القرآن الكريم في بداية نشاطه التدريسي على طلبة الحوزة العلمية الزينبية، وبعد فترة بدأ بتدريس بحث الخارج. وكان يدير شؤون الحوزة بنفسه ويهتم دائماً بشؤونها وأمورها ومشاكلها، بحيث كان يهتم كثيراً أن لا يُهان أيّ رجل دين ولو كان عادياً. وكان يقول وبالأخص قبل استشهاده بأشهر: «أنا على يقين بأنّ هذه الحوزة هي باقية سواءً كان حسن موجوداً أو غير موجود». وهذا هو نص حديثه، وكان يقول: «إن الحوزة هي للسيدة زينب عليها السلام وللإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف».
المعاهدة مع الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف: وكان له قدس سره معاهدة في الأيام التي كان في السجن مع الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف إذا خرج سالماً وحياً، (وقد نقله لي)، كانت هذه المعاهدة قبل أن يؤلّف كتاب (كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف)، خاصة بينه وبين الله، وعندما خرج من السجن كتب الكتاب المذكور، علماً أنه قد عُذّب في السجن بأنواع من التعذيب، بحيث أنّ المعذّبين الجلاوزة كانوا (كما ينقل الشهيد) يقولون له: لماذا لا تموت. (وذلك من كثرة التعذيب وشدّته) والمفروض أن تكون ميتاً منذ مدة، فمت حتى نحن نرتاح.
الامداد الالهي: وكان الشهيد يقول: كنت أحسّ بأنّ هناك قوة تحفظني، وكان هذا الإحساس دائماً يراودني، وحينما خرجت من السجن ووصلت إلى بيروت كان معي سكّيناً صغيراً وحين التفتيش أخرجوه، وقالوا لي على سبيل المزاح: ما هذا يا سيد نراك تحمل سكّيناً؟! فقال: الا تعلمون انني قادم من العراق!!. فقالوا: الحمد لله على السلامة فأهلاً وسهلاً بك. وكان (رضوان الله عليه) يتناول إلى آخر أيامه الدواء وذلك من أثر التعذيب. وكان قدس سره يهتم بأمور الحوزة وخدمة المذهب، وبالأخص في مسألة الإقامات الرسمية التي تخوّلنا البقاء في هذا البلد، وذلك عندما خرجنا من السجن حيث لم تكن لنا إقامات رسمية في سورية.
لا للانتقام: ● ماذا كانت الخصوصيات الأخلاقية للشهيد السعيد السيّد حسن الشيرازي قدس سره؟
كان يقوم بمساعدة القادمين اليه ومؤازرتهم وأداء احتياجاتهم حتى انه إذا لم يكن يملك شيئاً كان يستدين ويقوم بمساعدته، وكان دائماً يعامل المسيء بالإحسان، وهذه الميّزة التي أنا عايشتها معه ورأيتها بنفسي من هذا الرجل العظيم.
الحوزات في كل مكان: ● من خلال معاشرتكم للشهيد كيف تقيّمون شخصيته الذاتية؟ وعبقريته الفذة؟ في الواقع الكل كان يعترف بشخصيته وعبقريته، وأذكر أنه قد اجرى معه لقاء مسجّل، وقد أكّد في هذا اللقاء بأنه لا يقوم بتأسيس هذه الحوزة فحسب بل لابدّ من فتح حوزات أخرى في بلاد أخرى حتى لا يكون العمل محصوراً في هذه الحوزة، فقط فمن الممكن أن تُواجه الحوزة مصاعب ومشاكل، فتستقطب الحوزات الأخرى الطلاب وتستوعبهم، كما حدثت وواجهت حوزة النجف المصاعب. وكان قدس سره يؤكّد ويقول: أنا حاضر أن أسلّم هذه الحوزة لأحد الأشخاص بشرط عدم تفكيكها وأنا أؤسس في مكان آخر. (هذا نص كلام الشهيد).
قضاء الحوائج: ● سماحة الشيخ كيف كان يتعامل السيّد قدس سره مع الناس عامة؟ وبالأخص مع زائريه؟ كان هذا المكان الذي نتواجد فيه (مكتب الشهيد) يمتلأ بالناس، وكنت من الأشخاص الذين يستقبلون المراجعين فكنت استمع اليهم إلى حين صلاة الظهر، وعند الاذان كان السيد يذهب إلى تأدية صلاة الظهر في السيّدة رقية عليها السلام، وكان المراجعون يبقون في المكتب حتى مجيء السيّد من الصلاة، فيقضي لهم حوائجهم ومطالبهم ويحلّ لهم الشكاوى، ويقوم بمساعدة المحتاجين والفقراء من الناحية المادية، ويقضي حاجة ذلك الذي يحتاج إلى الغذاء الروحي والمعنوي، فقد كان قدس سره أستاذاً ومعلماً ومرشداً في جميع المجالات، وقد تعلمت منه كثيراً في التربية الروحية والمعنوية.
المعاشرة الحسنة: ● أرجو أن تنقلوا لنا بعض القصص والخواطر التي تخصّ الشهيد في مختلف جوانب الحياة؟
وخلال علاقتي ومرافقتي للشهيد أتذكر هذين الموقفين منه، فحسب ولكنه في الواقع كان هادئ الطباع ولا يعصّب بتاتاً، فأنا شخصياً رأيت منه كثيراً من المواقف التي تدل على هدوءه وكظمه للغيظ، فقد جاءه أحد الطلبة في مقام السيّدة رقية عليها السلام وقال له: أنا سوف لن أصلّي خلفك بعد الآن. فقال له السيّد: أهلاً وسهلاً ومرحباً. فلم يعامله بالإساءة والعمل السلبي. وكان البعض يؤذونه ويعاملونه بالإساءة، وكان هو يعاملهم في المقابل بالإحسان، وكان قدس سره يتعرّض بسيل من الاتهامات والشبهات والافتراءات والمشاكل التي كانت تواجهه، ولكن السيّد كان مقابل كل هذه التهم يقف كالجبل الأصم.
افريقيا والتشيع: كان فكره بعيد المدى لم يتجمد في اطار معين بل كان يخترق الحدود المصطنعة لينقذ البشرية اين ما كانوا وفي ذلك الوقت كان الشهيد يقول: لقد خطط الفاتيكان لكي تصبح قارة أفريقيا برمتها مسيحية. وذلك لسنة 2000 م وطبعاً هم حسبوا بالتدقيق العلمي سنة 2000م، ولكن السيّد كان يقول بعد أن زار أفريقيا: إن أفريقيا مهيئة للتشيّع. هذا نص كلام السيّد. كان يقول: الذين هم على الباطل يعملون افلا نعمل ونحق على اللحق، المفروض علينا ان نستعد.
طموحات الشهيد: ● سماحة الشيخ لكل مفكر قيم ومبادئ يرتكز على هذه القيم والمبادئ، فما هي الطموحات والمبادئ التي كان الشهيد يرتكز عليها؟
وكان قدس سره يشجّع الخليجيين على شراء الأراضي والعقارات في بلدة السيّدة زينب عليها السلام، وكانت في تلك الأيام رخيصة جداً، ولكن لم يهتم احد بأقوال السيّد، وقد كان بعضم يقول: ماذا يقول هذا السيّد تعال واشتري في هذا الصحراء!!! والآن وبعد مرور الزمت ثبت أنّ كلام السيّد كان صحيحاً وانه كان ينظر بعيد المدى وهم كانوا على خطأ ولم يكونوا يدركوا ما يرمي إليه السيد. وكان دائماً يهتم ببناء المساجد والحسينيات والمراكز والمؤسسات الإسلامية، وكان يشجّع ويشوّق التجار من جهة، ومن جهة أخرى الناس على بناء الحسينيات والمساجد والمكتبات، وكان يقول للتجار: اذهبوا أنتم بأنفسكم وابنوا وعمّروا واعملوا. وطبعاً كان التوجيه منه والعمل عليهم، ولكن التجار لم يكونوا بذاك المستوى من التجاوب معه.
الأجواء الدينية: ● هل كان الشهيد يحمل هموماً وآلاماً تجاه العالم الإسلامي سواءً القضية الأفغانية؟ أم القضية الفلسطينية والقدس؟ أو ما كان يحدث في جنوب لبنان؟ لقد كان هموم السيّد كثيرةً جداً، أولاً حينما خرج من العراق أصبحت الحوزة في كربلاء في حالة من الركود، فقد جاء حفيد السيّد البروجردي قدس سره إلى الشام، وتحدّث مع سماحة السيّد الشهيد، وكان يقول: عندما خرجت من كربلاء فإنّ الجوّ الديني الذي كان يسود المدينة المقدسة قد انخفض من 100% إلى 20% أو 10%. وأنا سمعت نص الكلام من حفيد السيّد البروجردي الذي كان جالساً هنا (في مكتب الشهيد). فكان السيّد الشهيد مهموماً أنه لماذا أصبحت الأوضاع الدينية هكذا، وبالأخص في النجف الأشرف وكربلاء التي تدنّت، فلذلك كان يفكر دائماً ماذا يعمل، وكان دقيقاً في كل أموره، ولقد كان ناجحا في كل المجالات التي كان يتحرك فيها ولله الحمد، ولكن كلما ازداد الانسان في عمله ونشاطه فان خصومه واعداؤه يتكاثرون.
الهيئة العامة: ● هل تتذكرون أهمّ أصدقاء الشهيد وأعوانه في أعماله؟ كان أصدقاء الشهيد عندما جاء وأسّس الحوزة ومعاونوه هم الهيئة العامة الذين يتواجدون إلى اليوم في الحوزة وهم من الأساتذة الكبار وإلى اليوم يدرّسون بدءاً من المقدمات والسطوح العالية وبحث الخارج، وقام الشهيد بنفسه بتأسيس هذه الهيئة، وكان قدس سره صديقاً للكل من باب أننا جئنا نعمل، جئنا لنصادق لا لنعادي، ولكنه من الجانب الآخر كان يسمع كلاماً غير صحيح.
التعامل مع الخصوم: ● كيف كان تعامله مع الخصوم؟ وبالأخص مع الذين كانوا يعرقلون مسيرة السيّد في تأسيسه للحوزة العلمية، ويضعون أمامه الصعوبات؟ فكيف تعامل مع هؤلاء؟
فكان قدس سره يتعامل مع خصومه بالرفق واللين، ويعاملهم بكل لطف وأخلاق، وأنا مراراً (إلى الآن أتذكّر) كنت أنزعج من هؤلاء الذين كانوا يوجّهون للشهيد التهم والافتراءات فكنت أقول: لماذا؟ فكان الشهيد يقول: شيخ عباس لا تهتم عليك أن تعمل، ولا تهتم بكلامهم، ولا تزعج نفسك، وفي الواقع أنا استفدت من الشهيد العظيم في الغذاء الروحي والمعنوي كثيراً جداً، لأنه كان يعطينا دروساً عملية، وقد كان لي بمثابة الأب الروحي بكل معنى الكلمة، وأنا لا أنساه وله حق عليّ وعلى أولادي، فها هو قد استشهد قبل أكثر من ربع قرن وترى إنجازاته باقية حتى الآن، ولو كان عمله لغير الله سبحانه لم تكن تبقى هذه الحوزة إلى الآن.
الحياة الشخصية: ● سماحة الشيخ كيف كان يأكل الشهيد؟ ويشرب؟ ويلبس؟ كيف كان سكنه؟ ومنامه؟ هذا المكان كان مكتبه يستقبل فيه الضيوف، وأما الغرفة الثانية فكانت لمنامه، وأما الغرفة الأخيرة والصغيرة فكانت لأخته العلوية، وبالنسبة إلى ملابسه فكانت له عبائة واحدة، وجبة واحدة، وعمامة واحدة، وهذا بالنسبة إلى الثياب، وأحياناً كان يقول لي: تريد هذه الجبة؟ فأقول له: لا يا سيدي أنا لا ألبس الجبة. ولقد أخذت منه دشداشة تبركاً كذكرى، ولازلت أحتفظ بها في البيت إلى اليوم، وأما بالنسبة إلى الأكل والشرب، ففي ليلة من الليالي بقيت هنا في المكتب من كثرة العمل إلى الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل، فقال السيّد: ابق هنا ونم. فنمت وفي الساعة الثالثة صباحاً أيقظني من النوم وقال لي: قم وتعشى، فقمت إلى السفرة ورأيت الأكل عادياً الى ابعد الحدود ، قليلاً من الرز، ومرقة العدس دون لحم، وقليلاً من اللبن، فقال لي: يا شيخ عباس هذا بالنسبة لي فطور وغداء وعشاء. في الساعة الثالثة صباحاً، وأحياناً كان ينسى الأكل والنوم من كثرة العمل، واللقاءات مع الناس، وأمور الحوزة وإدارتها، والعمل في لبنان، فكان لا ينام في الليل، وإلى الصباح كان يناجي ربّه ويصلي صلاة الليل وهو ما بين التوسلات والأوراق والمطالعة والكتب والكتابة إلى الصباح، فكان يقول: أنا في الليل أرتاح. وأحياناً كان يقول لي بعد صلاة الصبح: عندي موعد في الساعة الفلانية. فكنت أقول له: سيدنا بعد ساعتين وكيف ذلك؟؟ فيقول: أيقظني من النوم فعندي موعد. فكنت أذهب وأدقّ الباب وأقول له: سيدنا لقد أتوا الجماعة. فلم يكن يشبع من النوم، وفي خلال أربعة وعشرين ساعة من الممكن أنه ثلاث أو أربع ساعات ينام فيها ومع ذلك لم يكن يرتاح فيها.
الاقتراض دائما: ● فضيلة الشيخ مع أنّ الملايين من الأموال كانت تصل بيد الشهيد، كيف كان يعيش زاهداً حتى لا يملك أجرة التاكسي، فيأتي ويقول لأحد الطلبة: أقرضني خمسة ليرات أو عشرة ليرات (في ذلك الوقت) لأدفع أجرة التاكسي؟
وكان يستقرض ويستدين ويقضي حوائج الناس، وهذا أبو أحمد شاهد أنه كان في كثير من الأحيان يستدين منه وهو الذي كان يضع أمواله عند السيّد. وأحياناً كان يأتي الشهيد إلى المكتب من بيروت و لم يكن عنده مبلغ عشرون ليرة فقط، ليدفع ايجار التاكسي فيبحث في غرفة نومه فيجد بعض الليرات الحديدية التي طبعت حديثاً، فيجمع المبلغ ويدفعها لسائق التاكسي.«ويتذكر ذلك ابواحمد» وأحياناً في لبنان (وقد حدّثوني بذلك) أنه كان يمشي كيلو مترين أو ثلاثة لأنه لم يكن يملك نقوداً ليدفع أجرة التاكسي. وقد تحدّث الأستاذ أبو أحمد الركابي مرةً وقال: كنت أمشي مع السيّد عدّة كيلو مترات في بيروت، وبعد ذلك كنت التفت بان السيد لا يملك حتى ليرتين لدفع اجرة التاكسي فكنت اقول له: لماذا لم تخبرني بذلك فكان يجيبني إنما استحيت. ولقد اخبرني الأخ مفيد الذي كان مرافقاً للشهيد في لبنان وسائقه في بعض الأحيان قائلاً: كنت أنا والشهيد في بيروت، وفي يوم من الأيام لم نكن نملك نقوداً لنشتري من البقالية، وكان صاحب البقالية أيضاً يطلبنا مبلغا، فلم يكن يعطينا شيئاً، فقال الشهيد لي: يا مفيد تعال لنطبخ طعاماً. فقلت له: ماذا نعمل ولا يوجد في البيت شيئ؟ قال: الماء موجود، والسكر موجود، والخبز اليابس موجود، فأتى بصحن ووضعه فوق النار ووضع فيه قليلاً من السّمن وفوقه الخبز اليابس والسكر ثم أكلنا منه. هذا هو الأكل الذي كان يأكله أحياناً الشهيد، وعندما استشهد رحمه الله كان عليه ديوناً كبيرة في ذلك الوقت وكانت تقدّر ـ حسب علمى ـ بأكثر من مليون ومائتين وخمسين ألفاً من الليرات اللبنانية التي كانت أغلى من الليرة السورية. وقد قام بأداء هذا الدين مجموعة من أهل الخير جزاهم الله ألف خير.
من مشكلات تأسيس الحوزة: ● كيف فكّر الشهيد في إنشاء الحوزة العلمية الزينبية في سورية؟ تأسيس الحوزة في الواقع كانت كرامة من أهل البيت عليها السلام لأنّ الشهيد السيّد حسن كان محكوماً عليه بالإعدام في كربلاء، ومن كثرة التعذيب وشدّته كان من المفروض أن لا يخرج حياً من السجن، ولكن من بركات الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وتوسلات الشهيد به، وكما قلت في البداية أنه دخل إلى مقام السيّدة زينب عليها السلام، وطلب منها الدعم المعنوي والمادي لأجل تأسيس حوزة علمية بجوارها. فمنذ ذلك اليوم وُفّق في تأسيس الحوزة مع كثرة المشاكل والصعوبات التي واجهته.
المعاهدة مع بقية الله الأعظم: ومن جملة تلك المشاكل مشكلة الاقامة حيث لم يكن لنا إقامات رسمية في سورية، وقد دخلنا بسبب ذلك السجن، وحينما خرجنا من السجن قال لي الشهيد: يا شيخ عباس لا تفكر أنني أنا الذي أخرجتك من السجن، فقلت: كيف ذلك يا سيدي؟ فقال: حينما كنت في السجن في العراق من شدّة التعذيب ومن كثرة التعذيب أحسست أنني سوف أموت، ولكنني توسلت بالإمام الحجة وتعاهدت معه وخاطبته قائلا: أنني إذا خرجت من السجن سوف أكتب عنك كتاباً.
يقول الشهيد: كنت ناسياً ففكرت في الأمر، ثم قلت لها: إنّ هذا هو سر بيني وبين الإمام صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف فكيف عرفتِ أنتِ؟! فقالت: في المنام اخبروني بذلك وقالوا لي: إذهبي وأخبري أخاك ليقوم بوفاء عهده فطلب الشهيد منها أن لا تخبر أحداً بهذه المعاهدة حتى الإخوة والأخوات. يقول الشهيد: لم تفارقني المصاعب الجمّه بل ازدادات يوما بعد يوم مما سبب نسيان تلك المعاهدة نهائيا وبعد مضي سنة او سنتين جاءت اختي في المرة الثانية، وأخبرتني بشدّة، وقالت: يا حسن لقد أبلغوني أنه لابد أن تقوم بالوفاء بالمعاهدة هذه المرة. فقلت: أية معاهدة. ولم يكن هذا النسيان الا نتيجة آثار التعذيب القاسي والأمراض التي رافقت الشهيد بعد نجاته من سجون البعث الرهيبة والتي كان لاجلها يتناول الدواء دائما، بالاضافة الى هالة من العراقيل والمصاعب والمشاكل التي احاطت به جراء قيامه بتأسيس الحوزة العلمية وغيرها من المشاريع الإسلامية. يقول الشهيد: عند ذلك وفي وقت قصير جدا ألّفت كتاب (كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وفي الليل رأيت في عالم الرؤيا أن سيداً نورانياً ذاهيبة وجلالة يشكرني. عرفت بعد ذلك بأنه رسول الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، بعد أن أكملت الكتاب حُلّ كثير من القضايا والمشاكل المتعلّقة بالحوزة وغيرها، كما حلّت مشكلة الإقامات الرسمية للطلبة، وحلّت مشاكل الحوزة 70% تقريباً.
مشكلة الرواتب الشهرية: كانت احدى المشاكل التي تواجه الشهيد تأمين الرواتب الشهرية للطلاب ولاجل ذلك قال احد السادة إذا قام السيّد حسن بحلّ عقدة الإقامات الرسمية للطلبة فالرواتب الشهرية على عاتقي وذلك بالتعاون مع حوزة النجف الأشرف. يقول أحد أساتذة الحوزة: عندما حلّت هذه المشكلة، ذهبت إلى ذلك الشخص الذي كان وكيلاً للمراجع العظام واخبرته بالامر وطلبت منه الوفاء بالوعد، فتعجب وهو يقول: حسن استطاع أن يحصل على الإقامة الرسمية؟ كيف ذلك؟ فقلت له: أنت وعدتنا بأن السيّد حسن إن استطاع الحصول على الإقامة فإن الرواتب عليّ، فقال: إن شاء الله. ولكنه لم يف بوعده وكانت رواتب الحوزة في بعض المرات تتأخر أربعة إلى خمسة أشهر، ـ في بعض الاحيان ـ ولكنه كان يحاول ويجاهد ويكادح ويستدين ويستقرض في سبيل إعطاء رواتب الطلبة، وتسيير أمور الحوزة. لقد كان هنالك جمع كثير لا يريدون ان يرون الشهيد يقوم بتأسيس الحوزة ولذلك كانوا يحاولون عرقة مسيرته بكل الوسائل والسبل حتى لا يكون فخر ذلك للشهيد ولاسرة آل الشيرازي. وكانوا يأتون إلى السيّد ويحاولون ثنيه عن عزمه بشتى الوسائل حتى انهم كانوا يقولون له بعض التعابير الشديدة، وتارة كانوا يدخلون اليه ناصحين مشفقين عليه ويقولون له: لماذا تخسر عمرك على الحوزة إذهب وألّف كتباً مفيدة.
منع الصلاة في حرم السيدة زينب عليها السلام: ● ما هي المحاولات المختلفة من مختلف الأطراف لعرقلة تأسيس هذه الحوزة؟ وكيف استطاع الشهيد تجاوز هذه العراقيل؟
إنّ إقامة صلاة الجماعة وتأسيس الحوزة هي لصالح الشيعة وأهل البيت عليها السلام. ولكن قصور هؤلاء في الفهم والدرك ادّى الى تأخر الشيعة!!
دروس الشهيد: ● أذكروا لنا بعض الدروس التي كان يلقيها الشهيد في الحوزة؟ الشهيد بدأ بدرس التفسير والأخلاق، وبعد ذلك بفترة بدأ بتدريس بحث الخارج على طلاب وأساتذة الحوزة الذين كانوا يشاركون أيضاً في بحث التفسير، واستمر إلى قبل استشهاده، وأنا أذكر حينما أردت أن أسافر إلى إيران جئت لأخذ الفرصة والإجازة من السيّد. ولكن السيّد رفض ولم يمنحني تلك الإجازة. فقلت: سيدنا أنا لم أزر الإمام الرضا عليه السلام والسيّدة معصومة عليها السلام. إضافة إلى لقاء أقربائي والإمام الشيرازي الراحل (رضوان الله تعالى عليه). فقال: إذاً إذهب ولكن أسرع في الرجوع والعودة. فمنحني خمسة عشر يوماً إجازة للزيارة.
رسالة الشهيد الى الإمام المجدد: لقد استخرت الله سبحانه وتعالى ثلاث مرات للسفر الى ايران ولكن الخيرة كانت تأمرني بالصبر ولم اعرف سر ذلك. ولما جاء السيد الهاشمي الى سوريا الى زيارة السيدة زينب عليها السلام وزار مكتب الشهيد والتقى به ـ لأول مرة ـ أحبّ الشهيد كثيراً وأصبح من مريديه، لأنّ أسلوب السيّد كان أسلوباً جذّاباً للجميع قررت ان اسافر الى ايران فجئت الى الشهيد لاودعه فاعطاني رسالة وقال: هذه الرسالة توصلها بيد اخي السيد محمد (الامام الشيرازي الراحل) مباشرة وبعدها سافرت بالباص وبمعية الوالد وكان معي السيّد هاشمي نژاد الذي أعطى عنوانه لوالدي وأكّد عليه أننا إذا زرنا إيران لابد أن نقوم بزيارته، وعندما وصلنا إلى طهران ذهب السيّد هاشمي إلى بيته في منطقة كرج، في طهران وأما نحن فاتجهنا إلى قم المقدسة، وذهبت الى بيت الإمام الشيرازي قريب الغروب لأسلم رسالة الشهيد الى اخيه المرجع الإمام الراحل السيّد محمد (رضوان الله تعالى عليه)، وعندما سلمتها بيده فتح الرسالة وكان في داخله ظرف أخر ففتح الظرف وقرء الرسالة وشكرني لم اعلم محتوى الرسالة ولكن بعد أن رجعنا من أربعينية الشهيد من مشهد إلى قم، التقيت بالشيخ حسن الأصفهاني وقال لي: هل تدري ماذا كتب الشهيد في الرسالة التي بعثها إلى أخيه؟ قلت: لا. قال: كتب في الرسالة أنني سأصل إلى إيران بعد عشرة أو خمسة عشر يوماً إن شاء الله لاستقر في قم المقدسة. وبالفعل وصل إلى قم بجسده، ولكن بلا روح.
نبأ الشهادة:
وكانت الوقعة والحادثة كبيرة على نفسي، وكأنني أحسست بأنّ الحوزة قد تهدّمت باستشهاد السيّد حسن. ومر على خاطري امر تلك الاستخارات التي كانت تأمرني بالصبر، لأننا إذا ذهبنا إلى إيران وبقينا فترة والعائلة في سورية، فماذا تكون مصيرنا ومصير الحوزة، ولكنني تذكرت كلام الشهيد وحديثه الذي كان يقول، دائماً: هذه الحوزة للسيدة زينب عليها السلام سواءً كان حسن موجوداً أو غير موجود فإنني متيقن بأنّ الحوزة باقية (والى الآن تذكر كلام الشهيد ولن انساه) لماذا؟ لأن تأسيس الحوزة ـــ وكما كان يقول الشهيد ــــ كان خالصا لوجه الله سبحانه، فقد كان عمله لوجه الله تعالى، ولاجل ذلك بقيت الحوزة وستبقى إن شاء الله مستقبلاً، كل ذلك ببركات السيّدة زينب عليها السلام والإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف. فعلى كل حال، ذهبت إلى بيت الإمام الشيرازي الراحل السيّد محمد قدس سره، وانتشر الخبر في الأوساط الإعلامية العالمية بأشكال مختلفة، وان لم يكن بعضها صحيحاً في ذلك الوقت. وقد شاركت في تشييع الشهيد في قم، وبعد ذلك ذهبت إلى مدينة مشهد لزيارة الإمام الرضا عليها السلام، وبقينا في مدينة مشهد المقدسة وحضرنا أربعين الشهيد في بيت شقيقه السيّد مجتبى الشيرازي، وبعد ذلك رجعنا إلى طهران، وقد قررنا الذهاب الى زيارة السيد هاشمي نژاد الذي الح علينا كثيراَ. وحسب العنوان ذهبنا إلى أن وصلنا إلى بيته، وبعد أن فتح لنا الباب بدأ يبكي، وعندما جلسنا في غرفة البيت أصبح يبكي بكاءً عالياً، فبكى وبكى إلى أن هدأ. فقال: يا ليتني لم أر ولم أشاهد هذا السيّد الذي دخل حبه قلبي وتعلقتُ به كثيراً، ثم حدثنا بقضية عن الشهيد قائلاَ: عندما ذهبت إلى السيّد وودّعته لكي أرجع إلى بلدي في إيران، قال الشهيد لي: أتعرف فلانا الذي هو في مسجد الجمكران (وكان من الأوتاد الأخيار في ذلك الوقت).
قال السيد الهاشمي: في أول يوم أربعاء ذهبت إلى مسجد جمكران فالتقيت بذلك الرجل، وسلمت عليه، وأبلغت سلام الشهيد السيّد حسن، وقلت له: إنه يطلب منك الدعاء. فاجابني ان الذي يطلبه السيد حسن من الله تعالى سيناله. يقول السيّد الهاشمي: بمجرد ان تكلم الرجل بهذا الكلام خطر في بالي ان السيد حسن كان يطلب الشهاده ولم تمر الا ايام قصيرة واذ ابي اسمع نبأ استشهاده. فكان يقول: أنّ هؤلاء العظماء يصلون إلى مرحلة يطلبون الشهادة في سبيل الله. هذه هي بعض الذكريات عن تأسيس الحوزة ومصيرها بعد استشهاد السيّد، واتذكر الشهيد كيف كان دائماً يقول بأنّ الحوزة للسيدة زينب عليها السلام وهي الحوزة الزينبية وليست الحوزة الشيرازية.
التحريض على الزواج: وأنا شخصياً لي الفخر بان الشهيد هو الذي اجرى عقد زواجي وهو الذي ساعدني في مسألة الزواج، ولو لم يكن السيّد لم استطع ان اتزوج فله الحق على أولادي أيضاً وليس فقط عليّ. وكان دائماً يوصي الطلبة بالزواج ويشجّعهم، وفي يوم من الأيام جاء السيّد مهدي الكسّار إمام جامع السيّدة الزهراء عليها السلام بحيّ الأمين، وقال للشهيد: سيدنا لماذا لا تتزوج؟ فقال الشهيد: أولاً أنظر إلى هؤلاء المشايخ العلماء زوّجهم جميعاً إلى أن يأتي الدور لي. فهو كان دائماً يوصي ويهتم جداً لمسألة الزواج وبالأخص للشباب.
مع الفقراء والمحتاجين: ● كيف كان يتعامل الشهيد مع الفقراء والمحتاجين؟
ومن دون تأخير ومن دون مقدمة مد الشهيد يده في جيبه وهو يقول: كل ما عندي في جيبي هو لك. فاخرج من جيبه تسعة اوراق نقدية من فئة العشرة ليرات واعطاني وهو يقول هذا هو كل ما املكه. فقلت له: هذا بالنسبة لي كثير كثير .. سيدنا هذه بركة .. واخذت منه التسعين ليرة. كما ان من خصائصه انه إذا دعاه أحد الطلبة للغداء معه كان يلبّي دعوته ولا يرفضها أبداً حتى وان كان الطعام عاديا جدا فيأتي ويأكل معه طعامه بكل لذة. كنت أقول له ـ احيانا ـ: سيدنا مع كثرة الأعمال كيف تلبّي مثل هذه الدعوات؟ فكان يقول: لابد للإنسان أن يهتم بهؤلاء الفقراء فان هؤلاء الفقراء يحتاجون إلى الدعم والمساندة، فمن الممكن أن أحدهم يدعو لك والله سبحانه يستجيب دعاءه. وكان الشهيد (رضوان الله عليه) يزور الفقراء والمحتاجين في بيوتهم ويساعدهم ويهتم في أمورهم، وإن لم يكن لهم مالاً كان يقوم بالاستدانة ليقضي حوائجهم.
في الساحل السوري ولبنان: ● كان للشهيد سفرات عديدة إلى الساحل السوري وإلى لبنان فما هي النشاطات التي كانت له في تلك المدن بدءاً من تأسيس المساجد والحسينيات وغيرها من المؤسسات؟ وكيف كان لقاؤه مع العلويين الشيعة في الساحل السوري سواءً في اللاذقية أو في طرابلس اللبنانية؟ لقد كان الشهيد يتردّد ويزور الإخوة في الساحل دائماً وفي كل شهر كان يزوره المرحوم جميل الأسد شقيق الرئيس السوري حافظ الأسد، والحاج إسماعيل الأسد، إضافة إلى الشيخ أبو الفضل، ولقد كان الكثير من الشخصيات والأدباء والعلماء يتزاورون مع الشهيد، وكانت لقاءاتهم في البداية في فندق أمية بمنطقة مرجة المعروفة بدمشق، وفي بعض الأحيان هنا في المكتب. ورحمة الله على الشيخ أبو الفضل والحاج إسماعيل فقد خدموا الحوزة خدمة كبيرة جداً، فأيّ مشكلة تصادف الحوزة كان الشهيد يتصل بالمرحوم أبو الفضل والحاج إسماعيل فكانا يأتيان فوراً. ورحمة الله على الشيخ يوسف صارم فقد كان من اولئك الذين يأتون لزيارة الشهيد، وكان يقرأ القرآن الكريم في المجالس التي تنعقد في الحوزة أو يقوم بالأذان في مقام السيّدة رقية عليها السلام .
تأسيس المشاريع:
وفي لبنان قام الشهيد بتأسيس «جماعة العلماء»، و«حوزة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف » في بيروت، وكان يلتقي بالشخصيات اللبنانية، ويهتم كثيرا بأمور الشيعة والمذهب. كيف كانت علاقة الشهيد بمختلف المذاهب والأديان كالإخوة السنة والمسيحيين واليهود؟ كان يلتقي في سورية مع المفتي العام للجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد كفتارو، وفي لبنان كان يلتقي بكبار الشخصيات والأدباء والعلماء والمفكرين اللبنانيين أتذكر منهم الأديب جورج جرداق، والأديب جوزيف الهاشم، والشاعر بولس سلامة وغيرهم، وكانت له علاقات وطيدة معهم.
لبناء قبور ائمة البقيع عليهم السلام: ● ما هي تحركات الشهيد بالنسبة إلى إعادة إعمار قبور أئمة البقيع عليها السلام؟ وإلى أيّ مدى وصلت هذه التحركات؟ وما هو السبب في عدم اكتمال المشروع؟ في خلال إحدى السنوات التي ذهب فيها الشهيد إلى الحج التقى بالملك خالد بن عبد العزيز، وكان الموعد المقرّر بينهما ربع ساعة، ولكن باعتباره شخصية كبيرة وأديب بارع له أسلوبه الجذاب، بمجرّد أن التقى بالملك وجالسه دامت هذه الجلسة ساعة وربع الساعة حتى أنني سمعت أنّ الذي يمنح المواعيد أشار عدّة مرات للملك بانتهاء موعد الشهيد ولكن الملك لم يقبل بل واصل اجتماعه مع السيّد، وكان حديث الشهيد يدور حول فتح البقيع أمام الزائرين، وبنائه، ولكن للأسف الشديد وضعت من جهات معينة بعض الموانع والعراقيل حالت بين الشهيد وبين بناء قبور البقيع، ولكن كان الشهيد مصراً على المضي في بناء البقيع.
زواج الشهيد: ● خلال مرافقتكم للشهيد لسنوات عديدة لماذا لم يتزوج الشهيد؟ وما هو سبب عدم زواجه إلى يوم استشهاده؟ علماً أنه كان السبب في زواج الآخرين ومنهم سماحتكم؟ والمشجّع إلى زواج الشباب والشابات وهو لم يتزوج؟ كان يقول: إذا تزوجت فإنّ بعض وقتي يذهب للزوجة فأنا أريد أن أصرف وقتي في خدمة الإسلام وأهل البيت عليها السلام والحوزة والمؤسسات، فأنا فقط المانع للزواج هذا هو. وأنا سمعت أنه اقتنع في الأيام الأخيرة قبل استشهاده بأشهر بالزواج ولعل للتعذيب القاسي الذي تعرض له في سجون العراق اثراً في تأخير الزواج وذلك أنه قد شُفي أخيراً من الأمراض التي تعرّض له خلال عمليات التعذيب التي مورست بحقّه، وطبعاً لم يشفى من كل الأمراض ولكن من بعضها.
الكتب العميقة: ● كيف استطاع الشهيد أن يكتب هذه الكتب العميقة والأدبية مع كثرة مشاغله وأعماله سواءً في سورية أو لبنان؟ ومع كثرة مشاكل الحوزة واللقاءات المكثّفة له والأسفار المتعددة فمتى كان يكتب؟
لقد كان الشهيد دائماً يستفيد من أوقاته التي تضيع عند الآخرين ولكن تلك الاوقات لم تكن لتضيع عنده، تماماً كأخيه الإمام الراحل السيّد محمد أكبر مؤلف موسوعي في العالم بحيث لقّب بسلطان المؤلفين لكثرة كتابته في مختلف العلوم. وكما سمعت من بعض الأصدقاء للشهيد في مدينة كربلاء المقدسة أنه كان يغيب عن الانظار في بعض الأحيان أسبوعاً أو أسبوعين فكنا نسأل عنه أين هو؟ فكانوا يجيبون أنه ذهب إلى منطقة الحر أو الى مكان آخر، والسبب أنه كان مشغولاً بالكتابة.
صلاة الجماعة: ● كان للشهيد دوراً كبيراً وخدمات جليلة سواءً بالنسبة إلى مقام السيّدة زينب عليها السلام أو مقام السيّدة رقية عليها السلام، فما هي تلك الانجازات؟ من أهم الخدمات التي قدمها الشهيد لمقام السيّدة زينب عليها السلام هو إقامة صلاة الجماعة حيث لم تكن هناك صلاة جماعة شيعية قبل ذلك أبداً، ولقد سمعت من الشهيد أن البعض كان يتهم الشيعة بالقبوريين وأنهم لا يصلّون إلا ناحية القبر، فكان يقول أنّ هذه التهم لابد من رفعها. فكانت خدمة كبيرة قدمها الشهيد فقد أقام أول صلاة جماعة شيعية في منطقة السيّدة زينب عليها السلام. وأيضاً هو أول من أقام صلاة جماعة شيعية في مقام السيّدة رقية عليها السلام، فبدأ الشهيد بإقامة صلاة الظهر، ورويداً رويداً بدأنا بإقامة صلاة المغرب والعشاء، ولله الحمد رجعت ومالت الأجواء لصالح التشيع. وأتذكر أنه لم يذهب لإقامة صلاة الجماعة في حرم السيّدة رقية لمدة شهرين، فقلت: سيدنا لِمَ لم تذهب للصلاة؟ قال: لأجل البناء، بناء مقام السيّدة رقية عليها السلام وتوسعة المقام الشريف.
● وفي نهاية هذا اللقاء هل لكم حديثاً تدلون به؟
فقد سمعت ان بيت الامام الراحل رضوان الله عليه بيت متواضع وعادي جداً، وكأنه عاش فيه إنسان من ابسط الناس وليس بمرجع.(ومع الاسف الى الآن لم استطع ان ازور البيت الداخلي للامام الشيرازي) وكما قلت سابقا فان أكل الشهيد كان بسيطاً جداً فهو لم يكن يأكل إلا في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أحياناً. كما إنه لم يكن يملك الاعباءه واحدة وجبة واحدة وقميص واحد. وأما بالنسبة إلى آية الله السيّد محمد رضا الشيرازي (حفظه الله) فقد كان البعض يتعجبون من قلة المبلغ الذي كان يصرفه في شهر واحد ـ وبالاخص في الكويت ـ فقد كان مبلغا قليلا. وهكذا حال عوائل هؤلاء الاسرة فهم قد تربّوا هكذا تربية حتى ان البعض كان يراقبهم من قريب ليرى كيف تعيش هذه الاسرة ولقد سمعت من احدهم ان البعض كان يراقب حاوية الزبالة عندهم خارج البيت هل أنّ فيها قليلاً من الرز أو الخبز أو غير ذلك، فلا يرون ذلك أبداً، فهؤلاء تربّوا هكذا تربية مميّزة، هذه كلها دروس للآخرين. وحقا انني اتعجب من مكارم اخلاق هذه الاسرة ومن اسلوبهم الجذاب: الاسلوب الايجابي والتعامل الايجابي مع الجميع حتى انهم لا يفرقون بين زيد وعمرو وبالاخص ارتباطهم بالمساكين والفقراء، وهذه ميّزة ثبت عندي أنّ هذه العائلة، وهؤلاء الرجال رجال بكل معنى الكلمة، الذين يعملون لله ويهتمون للفقراء والمساكين والمحتاجين حتى لو لم يكن عندهم فانهم يستقرضون ليقضوا حوائج الناس. ولقد توفي الإمام الراحل وكان عليه ديون بمبلغ مليون وخمسمائة ألف دولار، وهكذا الشهيد السيّد حسن الشيرازي كان عليه ديون في ذلك الوقت مليون ومائتين وخمسين ألفاً من الليرات، لقد كان باستطاعتهم أن يجمعوا الأموال الطائلة ولكن منعهم عن ذلك شدة اخلاصهم لوجهه تعالى، وهم يعرفون أن هذه الدنيا زائلة وفانية ولابد أن يعمل الانسان لخط أهل البيت عليه السلام، ويتحرك لأنّ خط اهل البيت هو الخط الصحيح والخط المستقيم الذي يوصل إلى الجنة وإلى النعيم، ولذلك قدموا خدمات جليلة للعالم الاسلامي ورحلوا عن هذه الدنيا ولم يتزودوا منها لدنياهم حتى بمقدار استملاك بيت أو أرض. فلا يوجد لديهم بيت ملك أبداً، ولا يستطيع احد أن يدّعي أنّ لأحد هؤلاء بيتاً يملكه وقد اشتراه بنفسه لا في كربلاء ولا في الكويت ولا في قم ولا هنا أو هناك، وحتى لو وجد شيئاً فإنه وقف لاستفادة الطلبة أو الحوزات، أو...، فليست للاستفادة الشخصية وحتى هذا البيت الذي يسكنه الإمام الشيرازي قدس سره في قم المقدسة ليس ملكاً له إنما هو بيت للإيجار. لاجل ذلك كله كنا اوفياء لهم وسنبقى اوفياء فهؤلاء يسيرون على طريق المذهب مذهب الحق 100%، وأرجو من الله أن يوفقنا النجاح في اقتفاء اثارهم على طريق اهل البيت عليهم السلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|
|