لقاء مع الحاج أحمد عزيز مراد زاده الوندي (خادم الشهيد)

اللقاء: السابع.

الشخصية المحاورة: الحاج أحمد عزيز مراد زاده الوندي (خادم الشهيد).

المكان: مكتب الإمام الشيرازي، حي الأمين، دمشق.

التاريخ: 28/5/2005م ـ 20/ربيع الأول/1426 هـ.

 

«العلماء ورثة الأنبياء»

تمهيد

ان الله سبحانه وتعالى امرنا ان نتخذ من الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قدوه فقال تعالى (إن لكم في رسول الله اسوة حسنة) فتوجب على كل من أراد أن يتخذه صلى الله عليه وآله وسلم قدوه ان يتعرف على حياته بادق التفاصيل وكذا من أراد أن يتخذ الأنبياء قدوه فنجد القرآن يفصّل لنا حياتهم وقصصهم وكذا الأئمة سلام الله عليهم باعتبارهم امتداد لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكذلك العلماء فكما ورد في الحديث (العلماء ورثة الأنبياء) فحري بنا ان نتخذهم قدوه واسوه فهم على ذات الخط الرسالي الممتد من أعماق النبوة الى علماءنا العاملين حفظهم الله.

 لذا ارتأينا ان نتعرف على سيرة حياة احد العلماء المجتهدين العاملين هو سماحة السيد الشهيد حسن الشيرازي فحاورنا أحد المقربين جدا ًمنه وهو من عايش الشهيد روحاً وجسماً وخلقاً والتزاما الا وهو الحاج أحمد الوندي.

 

المحاوَر في سطور

إنه الحاج أحمد عزيز مراد زاده الوندي من مواليد مدينة مشهد المقدسة في إيران.

وقد انتقل من مدينة مشهد المقدسة إلى مدينة كربلاء المقدسة، وهو في ربيعه الرابع، حيث نشأ وتربى في هذه المدينة المقدسة في العراق، وكان مرافقاً أميناً وملازماً مخلصاً لهذه الأسرة العلمية المباركة العريقة كعراقة التاريخ، أسرة آل الشيرازي.

ثم انتقل الحاج أحمد والتحق بالشهيد إلى سورية عام (1975م)، فكان معه إلى يوم استشهاده.

 

خمسون عاما في خدمة آل الشيرازي

ابتداءً حاج أحمد، متى بدأت علاقتك بالسيد الشهيد حسن الشيرازي قدس سره؟ وما مداها؟ وكيف نشأت هذه العلاقة؟

بدأت علاقتي بالشهيد الشيرازي قبل أكثر من خمسين عاماً، عندما كنت في كربلاء المقدسة، حيث عملت في خدمة هذه الأسرة الكريمة، سواءً في داخل بيته أو خارجه، وعندما كنّا هناك مع بعضنا البعض وبدأت المشاكل والصعوبات تواجه الشهيد قدس سره قرّر ترك كربلاء المقدسة والتوجه نحو لبنان، وعند وصوله إلى لبنان، ومعرفة الناس بذلك، كان أصدقاؤه ومحبّوه من كربلاء والعراق يزورونه في بيروت، وأنا أيضاً عندما كنت عازماً للحج كنت أتشرّف بزيارة مقام السيدة زينب عليها السلام في سورية، ثم أغادر إلى بيروت لأزور سماحة السيد وكان قدس سره في لبنان يدير شؤون الحوزة العلمية (حوزة الإمام المهدي عليه السلام التي قام بتأسيسها الشهيد في بيروت)، ويقوم بالتدريس واللقاء بالعلماء والطلبة، وبعد ذلك بأشهر انتقل إلى سورية حيث مقام السيدة زينب عليها السلام بدمشق، وحينها طلبت الإذن من الأسرة الشيرازية الكريمة في كربلاء، وانتقلت إلى سورية حيث كنت بخدمة سماحة السيد.

 

جهاد الكلمة

قبل هذا الحديث كنتم قد تحدثتم معي سابقاً في جلسة خاصة عن ذكرياتكم في مدينة كربلاء وذهابكم إلى سجن بعقوبة، حبّذا لو تحدّثتم قليلاً عن لقاءكم بالشهيد في السجن، وقدوم الزائرين إليه للإطمئنان عليه، وكيفية خروج السيد حسن الشيرازي من السجن المذكور؟

كانت هناك مناسبة ما، وفي ذلك الوقت واجهنا بعض المشاكل والصعوبات من قبل الحزب الشيوعي العراقي الذي تغلغل في أوساط بعض الشباب ، وكان المرحوم السيد الميرزا مهدي الشيرازي قدس سره، وقد أمر بأن يقام حفل بهيج في الحسينية الطهرانية بكربلاء وذلك بمناسبة (13 رجب) ذكرى ولادة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليها السلام، وكان الاحتفال المذكور إحتفالاً مهيباً وعظيماً تبثّ وقائعه عبر الإذاعة والميكروفونات المنصوبة حول أزقة وشوارع مدينة كربلاء الرئيسية والفرعية، مكلل بالزينة، إضافة إلى مائدة الطعام التي كانت بشتى صنوفها وأنواعها.

 

القصيدة العصماء

فتحدّث في الإحتفال المذكور بعض الشخصيات العلمائية والأدباء إلى أن وصل الدور إلى الشهيد السيد حسن الشيرازي، الذي ألقى قصيدة عصماء ألهبت مشاعر المستمعين والجماهير وأخذت بالألباب، ولا أدري ما هي الصعوبات التي واجهت الشهيد بعد هذا الخطاب الذي ألقاه في هذا الإحتفال الجماهيري المهيب، ولكن بعد ستة أيام أو سبعة علمنا بقدوم أجهزة الأمن والمخابرات ليلاً من بغداد إلى كربلاء، حيث اعتقلوا سماحة السيد وأخذوه معهم إلى العاصمة، ولم يعلم أحد باعتقاله، وكان الجميع يبحثون عنه ولكن دون جدوى، هل هو موجود عند الشخص الفلاني؟ أم هو في السجن؟ أم في مكان آخر؟ وكل الذين كان لديهم اليد الطولى لم يعرفوا بمكان تواجده، حيث ذهبوا لأجهزة الأمن وسألوا عنه ولكنهم كانوا يمنعون من لقائه أو معرفة مكان تواجده، وهل هو حي أم ميت؟ إلى أن مضت أيام عدة، حيث عذّبوه بشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وكان الجميع في حالة من القلق، أقرباؤه، أبوه، إخوانه، أخواته، أمه، السيد عبد الهادي الذي كان خاله في النجف الأشرف، فقد كان جميعهم يعيشون في حالة من القلق، وهم يبحثون عنه ولكن دون جدوى، وكان الجميع يدعون له وينذرون النذورات ويتوسّلون، حتى خرج سماحة السيد من السجن البغدادي، وتمّ نقله إلى سجن بعقوبة، وعند ذلك سمحوا بملاقاته وقالوا بأن من يريد مشاهدته ورؤيته يستطيع أن يزوره في السجن المذكور.

 

سفر الإشتياق

وكان الإمام الراحل السيد محمد يصلي صلاة الجماعة في صحن مقام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، وعندما ينتهي من صلاة الصبح كانت الباصات والسيارات جاهزة للإنطلاق، فكان الجميع من الرجال والنساء والأطفال والصغار والكبار يركبون هذه السيارات ليكونوا في الساعة الثامنة أمام باب السجن في بعقوبة، وكان الجميع يقفون صفاً واحداً ليدخلوا إلى السجن واحداً تلو الآخر، وكان حرس السجن يختمون على أيديهم بالختم، وكانت الهدايا التي تهدى للشهيد تفتّش وتدقّق، وكان بعض الهدايا يسمح بإدخالها، وبعضها تصادر، وفي أول زيارة لي للشهيد كنت بمعيّة الأسرة الشيرازية الكريمة حيث كانت أمه (رحمها الله) وأقرباؤه، فدخلنا إلى السجن حيث شاهدنا صالوناً كبيراً، وكان الشهيد جالساً على الأرض فوق بطانية وعلى رأسه طاقية بيضاء، وكان كل من يراه يبكي وتنهمر دموعه، وعندما رأته أمه وقعت مغشية عليها وغابت عن الوعي، وكانت آثار التعذيب بادية على يديه ووجهه ورأسه وشعره، فكنّا لا نعرفه من أثر التغيير الحاصل عليه من التعذيب بأن هذا هو الشهيد السيد حسن، فقد أصبح نحيفاً جداً وكان يرتدي دشداشة (الثياب العربي) والطاقية فوق رأسه، فأنكرته أمه وكانت تقول: أريد إبني حسن.

وعندما قال لها: أماه أنا ابنك الحسن، عرفته من صوته، فوقعت مغشيةً عليها، وغابت عن الوعي.

 

المثال الصابر

وكان الطلبة والعلماء والأصدقاء من بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء ومن كل المناطق والمحافظات العراقية الذين يأتون لزيارة سماحة السيد، يعانون من التضييق والأذى من قبل الأجهزة الأمنية، وكانوا يدهشون ويتعجّبون من أنواع التعذيب التي مورست بحق السيد في السجن.

وفي إحدى زياراتي له تحدّث لنا قائلاً: بأنّ السجّانين وزملاؤه في السجن يقولون له: بأنك منذ قدمت إلينا أصبحت أكبر نعمة علينا.

 وكانت السلطات تسمح لنا كل أسبوعين يوماً واحداً للزيارة، وكان محبّوه من كل مكان يأتون لزيارته في اليوم المذكور المحدّد.

 

الإستقبال العظيم

حاج احمد لو حبذا لو تحدثنا عن كيفية اطلاق سراح السيد واستقباله في كربلاء المقدسة؟

في الحقيقة مضت الأيام إلى أن علمت في يوم من الأيام أنهم أفرجوا عنه فجاء إلى كربلاء، وكان لمحافظ كربلاء علاقة قوية ووطيدة مع الأسرة الشيرازية، وعندما أفرج عن سماحة السيد ذهب المحافظ بنفسه إلى بغداد، واستلمه من الأجهزة الأمنية في السجن، ثم جاء به إلى كربلاء، وقبل مجيئه إلى كربلاء فإن الأهالي والمحبين والمريدين لسماحة السيد زيّنوا شوارع المدينة بأبهى زينة وأجملها لاستقباله، فكانت السيارات خلف بعضها البعض وهي تدخل المدينة، وأما الأهالي من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ فوقفوا على جانبي الطريق، وهم يهلّلون ويكبّرون ويصفّقون بأيديهم، وكانت النسوة ترمي بالورود والرياحين على السيارة التي تقلّ سماحته، وكانت خلف سيارته سيارات المحافظ، ومدير شرطة كربلاء، ومدير الصحة، وكانت تذبح الذبائح بهذا القدوم الميمون لسماحة السيد في كل مكان أمام هذه السيارات، وأول مكان زاره سماحة السيد كان حرم باب الحوائج أبي الفضل العباس عليه السلام حيث قام بأداء واجب الزيارة، وبعد ذلك زار حرم سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وكان الجميع يقفون أمامه بكل احترام وتقدير، وبعد الانتهاء من أداء الزيارة لحرم سيد الشهداء عليه السلام زار سماحة السيد مقبرة آل الشيرازي في صحن حرم سيد الشهداء عليه السلام حيث ضريح والده الميرزا مهدي الشيرازي قدس سره، وبعد الانتهاء من قراءة سورة الفاتحة، تفرّق الناس رويداً رويداً، فجاء سماحة السيد إلى منزله، وكان الأهالي والعلماء والأدباء يزورونه لعدة أيام ليطمئنوا على صحته، وكان سماحته وهو في حالة من التعب الشديد والهزال والأذى والمعاناة وأنواع التعذيب التي لاقاها في السجن يستقبل الجميع ببشاشته المعهودة ورحابة صدره.

 

رحيل بلا عودة

حاج احمد كيف كان برنامج سفر الشهيد من كربلاء إلى لبنان؟

بعد أيام من خروج الشهيد من السجن أدخل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره إلى المستشفى في بغداد، حيث جاءنا نبأ وفاته وانتقاله إلى رحمة الله تعالى، فجيء بالجنازة والنعش مباشرةً إلى مدينة كربلاء المقدسة حيث حرم سيد الشهداء عليه السلام وأخيه أبي الفضل العباس عليه السلام، وبعد أداء واجب الزيارة أخذوا الجنازة إلى مدينة النجف الأشرف، وقد حضر التشييع الإمام الراحل السيد محمد، وسماحة السيد صادق، وسماحة السيد حسن، وسماحة السيد مجتبى، وأقاموا مجالس الفاتحة على روحه الطاهرة في مدينة كربلاء المقدسة، وذلك في مسجد «العطّارى» الكائن في سوق البزّازين، وكان أصحاب السماحة السادة آل الشيرازي يجلسون أمام البوابة الرئيسية للمسجد لاستقبال المعزين، وكانت كبار الشخصيات تشارك في هذا الاحتفال التأبيني، وكنت أنا في ذلك الإحتفال أقوم بتوزيع الماء والشاي على المشاركين، فجاء محافظ كربلاء وجلس قرب سماحة السيد حسن، وبدءا يتحدثان معاً، وفي اليوم الثالث من مجلس الفاتحة لم أر ولم أشاهد السيد حسن، فكان الكل يتساءلون أين ذهب السيد؟ وبعد ذلك علمنا بأنه قد غادر كربلاء المقدسة حيث الجو غير ملائم له، فالحر شديد، ومعاناته من آثار التعذيب الوحشي ما زال يعاني منها.

غادر العراق متوجهاً إلى لبنان، وفي بيروت وبعد يومين من بقائه هناك، قدم وفد من بغداد لإقناعه بالرجوع إلى العراق، فأجابهم سماحة السيد بأن حسن ذهب ولن تروه في العراق أبداً مرة أخرى.

هذا هو برنامج سفره من كربلاء إلى بيروت ولبنان حيث سكن فيها.

 

الأخلاق العجيبة

ماذا كانت الخصوصيات الأخلاقية للشهيد السيد حسن الشيرازي قدس سره؟ أرجو أن تتحدثوا قليلاً عن بعض هذه الخصوصيات؟

بالنسبة لأخلاقه كان من العجب العجاب، مثلاً إذا علم ان شخصا يقوم بأعمال غير مناسبة تجاه الشهيد، أم كان يأتيه بعض المغرضين والحاقدين وهو يقول له بكل جرأة: أيها السيد أنت بأيّ جرأة قمت بهذه الأعمال كتأسيس الحوزة، ووضع بنيان هذا المكان (سورية)، فنحن وبكل قوانا لم نستطع فعل ذلك، وأنت قدمت ووضعت هكذا برنامج. فكان يجيبهم بكل بشاشة ويبتسم في وجوههم ويعاملهم معاملة حسنة.

وفي الحقيقة فإنّ الأخلاق الذي عند هؤلاء (الأسرة الشيرازية) والشهيد السيد حسن، فإنني وعلى طول عمري ومعاملتي مع الناس لم أشاهد ولم أر كمثل أخلاقه، ومثل صبره، ومثل كل نواحي الفضيلة عنده، وكان يصبر أمام كل المواجهات التي كانت تواجهه، والنقد الذي كان يوجّه إليه سواءً كان باطلاً أو حقيقة، والذي كان يتحدث معه بكل صلابة وخشونة كان يبتسم في وجهه وهو يقول له: عافاك الله.

وكان تعامله مع الأشخاص عجيب جداً، فلم أشاهد مثل أخلاقه عند أحد من الناس، وكان يبتسم مع الجميع، ويجلس مع الكل، سواءً على ُسفرة المائدة، أو على الاجتماعات، أو المجالس، أو الحسينيات، ويشارك في جميع المحافل التي كان يدعى إليها، وكان يتأمل ويفكر ويستمع، من كافة النواحي، أخلاقاً، معاملةً.

وعندما كان يأتيه إحد الشخصيات كان يعرف كيف يتكلم معه، وكيف يتكلم مع ذلك الشخص، وكيف يتحدث مع هذا الشخص.

 

البساطة من مميزات الشهيد

حبذا لو تحدثنا عن بعض مميزات الشهيد؟

كانت حياته المعيشية بسيطة جداً من جميع النواحي، أتذكر عندما بدأت الحرب العراقية الإيرانية كان يريد أن يستمع إلى نشرة الأخبار فلم يملك مذياعاً (راديو) ليستمع إلى النشرة الإخبارية، فكان يقول لي: يا حاج أحمد إذهب إلى جارنا الفلاني وأعر منه الراديو لأستمع إلى نشرة الأخبار وبعد انتهاءها قم بإرجاعه فوراً إلى صاحبه.

وفي مرة من المرات كان يريد أن يتصل تلفونياً اتصالاً ضرورياً، لأنه في ذلك الوقت لم يكن التلفون موجوداً بكثرة، وكان هذا الاتصال ضرورياً جداً، ولذلك كان يقوم من مكانه وحده، ويبحث ويدور من محل إلى محل لكي يجد تلفوناً ليتصل إلى الجهة المطلوبة، فكانت هكذا حياته بسيطة جداً إلى هذه الدرجة.

وعندما كان يدعى إلى مائدة طعام فيها أصناف وأنواع ما لذّ وطاب، وكان الجميع يأكلون من جميع الأنواع، كان يكتفي بنوع واحد فقط ويأكل منه، ونحن هنا في الشقة عندما كنت أطبخ وأقدم له الطعام كان يكتفي بأكل القليل منه، وكنت أراه في بعض الليالي يقوم وحده، ويشرب كأساً من الماء، أو كان يأكل شيئاً ما من البرّاد، من دون أن يأمرني باحضار ذلك الشيء وكان يقول لي: لا تدع البراد خالياً أبداً وذلك لكثرة الضيوف ولابد من احترامهم بتقديم الطعام لهم وان لم تملك مالا فاستدن لاستضافة الضيوف.

 

يوم مع الشهيد

حاج احمد ماذا كان برنامج الشهيد اليومي وهو في سوريا؟

لقد كان سماحة السيد قدس سره يسهر الليالي حتى الفجر ويظل يفكر بعيداً جداً.

وفي الصباح الباكر عندما كان يأتي الطلبة والعلماء والضيوف أقدم لهم الفطور الصباحي مع الشاي، حتى يقوم السيد من النوم فكنت أقدم له الفطور في الساعة التاسعة صباحاً، لأنه كان يقول لي: أيقظني في الساعة التاسعة صباحاً، لأنه كان يطالع ويكتب من الليل حتى صلاة الصبح، وعندما كان ينتهي من صلاته ودعائه يخلد إلى الراحة ويقوم في الساعة التاسعة.

فيستقبل الضيوف، ويقضي حوائج المؤمنين، وكلّ مشاكل الطلبة، ويردّ على أجوبة المسائل التي ترد إليه، إلى صلاة الظهر.

فكان هذا برنامجه الصباحي خلال ثلاثة أيام التي كان يتواجد فيها السيد في دمشق.

وكان لا يملك من الثياب إلا ثلاثة قطع، وكنت أقوم بغسلها واحدة تلو الأخرى، وعندما كان يأتي من لبنان كنت آخذ منه القطعتين وأغسلها، وبعد ذهابه إلى لبنان أقوم بلفهما في صرّة من القماش لا في حقيبة أو غيرها.

وفي المساء وعندما كان له موعد ما مع أحد كان يدخل إلى الشقّة ويجتمع معه، وعند ذهاب الضيف يجلس ويطالع ويكتب إلى أن يحين موعد أذان الصبح فينهض ويذهب ليتوضأ ويقف للصلاة، ثم يخلد للاستراحة والنوم.

وكان له في بعض الليالي بين آونة وأخرى اجتماعاً دورياً مع السيد الرئيس الراحل حافظ الأسد يطول لعدة ساعات، وعندما كان موجوداً بدمشق كان يأتيه كثير من الضيوف ومن كافة المناطق والمدن السورية، فمن اللاذقية كان يأتيه المرحوم الشيخ أحمد عيد الخير، والمرحوم الشيخ عبد الرحمن الخير، وغيرهما من المشايخ والعلماء الذين كانوا يجتمعون معه في هذه الشقة، وكان السيد يلبّي جميع احتياجاتهم سواءً أكانت كتاباً أم أسئلةً أم شيئاً آخر.   

وكان السيد عندما يريد أن يغادر إلى لبنان كان يوصيني دائماً ويقول لي: إذا جاء أحد ما من اللاذقية أو من أيّ مكان آخر لا بد أن تقوم بخدمته وأداء اللازم من الغداء أو الإفطار أو الفواكه أو الشاي أو المرطبات، وبعض الهدايا كالكتاب وما اشبه وأمّا إن كنت موجوداً فأنا أعرف بتكليفي.

 

اقامات بإسم السيدة زينب عليها السلام

كيف كانت علاقات الشهيد في سوريا؟

هنا في هذا الصالون (البرّاني) كان يأتيه الضيوف، فهنا كان يجلس المرحوم إسماعيل الأسد (شقيق السيد الرئيس)، وهنا كان يجلس الشيخ أحمد عيد الخير، وهنا الشيخ عبد الرحمن الخير، وهنا الشيخ أحمد كفتارو (المفتي العام للجمهورية العربية السورية)، فكانوا يجتمعون مع السيد ويتناقشون معه في مختلف المواضيع التي تهمّ المسلمين.

وعندما بدأ السيد يقوم بخدمة الطلبة والعلماء الذين كانوا لا يملكون شيئاً من حطام الدنيا، طرح سماحة السيد على السيد الرئيس وطلب منه أن يعطي شيئاً له لكي يكون هو وهؤلاء الطلبة أحراراً في هذا البلد.

 فسأله السيد الرئيس قائلاً: ماذا تريد بالتحديد؟   

فقال: أريد أن تمنح لهؤلاء الطلبة إقامات رسمية.

فقال: وتحت أيّ اسم؟ هل باسمك أم باسم آخر؟

فقال السيد: لا باسمي ولا باسم آخر، إنما باسم السيدة زينب عليها السلام، باسم الحوزة العلمية الزينبية.

والحمد لله منح السيد الرئيس الموافقة على هذا الطلب فأصبح الطلبة أحراراً في الذهاب والسفر والإياب، وعقدت المجالس الحسينية في الحسينية أو المكتب، إلى أن نال سماحة السيد درجة الشهادة والتحق بأجداده الطاهرين.

 

كرامته الشهادة

كيف كانت شهادة السيد؟ وكيف علمتم بذلك؟

كان تاريخ الشهادة في يوم الاثنين، فعند صباح ذلك اليوم قمنا بتناول الإفطار الصباحي مع بعضنا البعض، وكان أبو أحمد حاضراً أيضاً، فوضعت صرّة الثياب في سيارة التاكسي، وكنت واقفاً هنا أمام باب الصالون وكان أبو أحمد بجانبي، فقال السيد لنا: مع السلامة.               

فركب السيارة وغادر إلى لبنان، وكان من المقرر كالمعتاد أن يرجع السيد في يوم الجمعة، وكنت أنا في مقام السيدة رقية عليها السلام عندما وصل نبأ استشهاد أحد الاشخاص في لبنان عبر إحدى الإذاعات من لندن (إذاعة b.b.c)، وبعد فترة علمنا أنّ الذي استشهد في بيروت هو السيد حسن الشيرازي، وذلك في عصر اليوم الذي أقام فيه السيد مجلس الفاتحة على روح سماحة السيد الشهيد محمد باقر الصدر وأخته العلوية بنت الهدى، حيث استأجر التاكسي وكان وحيداً فحضر مجلس الفاتحة وبعد انتهاء المجلس رجع وحيداً وهو يقصد بيته، وعندما وصل إلى مفترق طريق حاصرته سيارتين حيث رموه بوابل من الرصاص الغادر الذي اخترق جسمه ورأسه الشريف، ونال درجة الشهادة أسوةً بأجداده الطاهرين.

 

الصداقة المخلصة

من هم أصدقاء الشهيد وأعوانه في أعماله؟ سواءً في لبنان أو سورية؟

في لبنان كان هناك الحاج عبد الرسول حيث يقوم بخدمة سماحة السيد مع الأخ مفيد، حيث كانا بخدمة السيد خلال الأيام الثلاثة التي يتواجد فيها في بيروت، وفي سورية كنت أنا والشيخ عباس والحاج أحمد في خدمة السيد، ومن المتعاونين معه من العلماء كان هناك السيد الحيدري، والشيخ غلام رضا الوفائي، والشيخ الأحمدي، والشيخ النوري، وكان هناك البعض من العلماء الذين كانوا يحضرون البحث الخارج عند سماحة السيد وكانوا يشاركون في كل المناسبات الإسلامية معه، وكانوا أيضاً برفقته سواءً في المشاركة لصلاة الجماعة خلفه في مقام السيدة رقية عليها السلام في صلاة الظهرين، أو بصلاة الجماعة في مقام السيدة زينب عليها السلام  في صلاة المغربين.

 

ادفع بالتي هي أحسن

كيف كان تعامله مع خصومه؟

كان خصومه يأتون ويجتمعون معه، ويحسبون له ألف حساب، وكانوا يحصون خطواته وعمله ونشاطه، ولكن السيد كان يواصل عمله ويبتسم في وجوههم، وهو بهذا العمل كبر في عيونهم وكسب ودّهم واحترامهم، وعرف هؤلاء الخصوم خط السيد ونهجه وبرنامجه، وعند معرفتهم هذا كانوا لا يزدادون إلا محبةً وإخلاصاً وتعلّقاً به، وأما محبوه ومريدوه فكانوا يزورونه من كل حدب وصوب، فكانوا يأتون إليه من العراق ومن إيران ولبنان وتركيا والخليج.

 

مؤثر على نفسه

حاج احمد لو تحدثنا عن بعض الصعوبات التي تعرض لها الشهيد؟

في بعض الأحيان كانت تمر علينا أوقات عصيبة جداً، وفي احيان اخرى كان يأتي من لبنان إلى هذه الغرفة الوسطى (غرفة النوم) من هذه الشقة وكان يدخل يده في جيوبه ويلقي بكل ما لديه من المبالغ النقدية بمختلف العملات الاجنبية إضافة إلى العملة السورية واللبنانية، فكنا نذهب ونقوم بصرف العملات الأجنبية وتبديلها إلى العملة السورية ونضعها أمام السيد، وكان يقول لنا: اذهبوا إلى السيدة زينب عليها السلام واخبروا الطلبة ليأتوا.

وكان عند السيد مفكرة كتابية يكتب فيها الواردات والصادرات من المبالغ التي ترد عليه، فكان يدوّن كل ما يعطيه وكل ما يأتيه، وكان يساعد الطلبة بتلك المبالغ التي جاء بها من لبنان، وفي النهاية كان يقول لي: هات دفترك، وكنت أعطيه إياه فكانت المصاريف التي أصرفها على مكتب السيد وأخته العلوية ما بين 100 إلى 150 ليرة سورية في ذلك الوقت، فكان يجمع المصاريف من على الدفتر ويعطيني المبلغ المدوّن ويقول لي: وهذا المبلغ لك.

وإن بقي شيء من تلك المبالغ كان يعطيني زيادة على المصاريف مبلغاً وقدره 50 ليرة سورية، ويقول لي: ليبقى هذا المبلغ بحوزتك لكي لا تبقى محتاجاً لأحد. واذا زاد من المبلغ كان يعطي لأخته العلوية مبلغاً لمصروفها الشخصي، وكان عندما يريد الذهاب من هذه الشقة الكائنة في حي الأمين إلى منطقة السيدة زينب عليها السلام عصراً للتدريس والصلاة في الصحن الزينبي كان لا يملك في جيبه خمس ليرات لدفع إيجار التاكسي، فكان يستدين من الشيخ الأحمدي أو الشيخ النوري، ويقول لهم: ادفعوا إيجار هذا التاكسي.

وعندما كان يأتي مساءً إلى هنا بعد انتهاء صلاة المغرب والعشاء كان لا يملك مبلغ الخمس ليرات ولذلك كان يقول لي: اذهب وادفع أجار التاكسي ليذهب.

 

القناعة من مميزات الشهيد

حاج احمد، ذكريات أخرى عن الشهيد؟

الشهيد خلال تواجده هنا خلال الثلاثة أيام كان أكله بسيطاً جداً وقليلاً، فقد كان في الصباح لا يأكل إلا قطعة صغيرة من الخبز والجبن وكأساً من الشاي، أو قطعة من الخبز مع بيضة واحدة وكأس من الشاي، هذا بالنسبة إلى إفطاره الصباحي، وأما بالنسبة إلى الغذاء اليومي فكان لا يسال أبداً ماذا طبخت أو ماذا عندكم اليوم للغذاء، فكل ما كنت أطبخه أنا أو أخته العلوية كنا نضعه أمامه ويأكله، وكان لا يتناول المشروبات المثلجة من الكولا أو البيبسي أبداً، بل كان يكتفي بشراب السكنجبين، أو شراب البرتقال.

وفي المساء عندما كان يخلد للراحة كان يقول لي: ضع جانبي كأساً من الماء، وعند الساعة العاشرة وبعد مغادرة المراجعين والضيوف كان يضع رأسه على المخدة كنت أظن أنه قد نام ولكني لا أدري أنه كان يقوم الليل ويجلس للمطالعة والكتابة، وكنت أراه وأنا على فراشي يمشي رويداً رويداً في الصالون وبيده الكتاب والقلم، فكان يمشي خطوات ويرجع خطوات، وهكذا ديدنه يطالع ويكتب إلى أذان الصبح، وعندما يؤذن المؤذن يقوم للصلاة والدعاء وبعد الانتهاء من صلاته يخلد للنوم، وكان يوصيني في المساء أنّ من يأتي في الصباح فليجلس في صالون استقبال الضيوف، وأيقظني في الساعة التاسعة صباحاً.

وكان كل من يأتي قبل التاسعة كنت أستقبله وأجلسه في الصالون وأقوم بخدمته من واجب الفطور الصباحي والشاي، ثم يقوم من مكانه ويستقبل ضيوفه والمراجعين.

 

مسجد اللاذقية

الحاج أحمد كنتم قد تحدّثتم على أن الشهيد قد ذهب في إحدى جولاته الكثيرة إلى الساحل السوري وبالأخص إلى مدينة اللاذقية وقرى الساحل التابعة لها، وهناك وضع حجر الأساس لإحدى المساجد التي تبنى بناءها بنفسه، وألقى كلمة قيمة في الاحتفال الضخم الذي أقيم هناك، وكان التجمع كبيراً جداً من قبل إخواننا الشيعة العلويين في الساحل السوري، نرجو التحدث عن هذا الجانب؟

عندما بدأت العلاقة الوطيدة بينه وبين الشيعة العلويين، وبالأخص مع السيد الرئيس، ومع مشايخ وعلماء الساحل السوري، كالشيخ عبد الرحمن الخير، والحاج إسماعيل الاسد، فكانت نتيجة هذه العلاقة أن توطدت أكثر فأكثر وكانت ذات أهمية كبيرة، فقد نذر نفسه في خدمة شيعة أهل البيت عليهم السلام في الساحل، وكان دائم التردّد عليهم، وعلى مدينة اللاذقية والقرى المجاورة لها، فقد تحدث معهم حول مشروع وضع حجر الأساس لبناء مسجد في هذه المدينة ليكون إشعاعاً إيمانياً، وانتخاب خطيب له.

فرحبوا بالفكرة وأدّوا موافقتهم بذلك، فوضع بذلك السيد حجر الأساس لبناء أول مسجد في المنطقة المذكورة، وتتالت بعد ذلك بناء كثير من المساجد في مختلف مناطق الساحل السوري، وبعد ذلك أصبحت العلاقات مستمرة بين السيد وعلماء وأدباء ومفكري الشيعة العلويين في الساحل، فكانوا يأتون إلى هذا المكتب ويعقدون جلسات خاصة مع الشهيد، أو كان السيد بنفسه يذهب إليهم حيث يأخذ معه إليهم الهدايا من الكتب القيّمة التي يحتاج إليها الأهالي، ويهيئ لهم ما يحتاجونه ، ويضع لهم أئمة للجماعة منهم في المساجد التي قام ببنائها.