لقاء مع السيد محمد حسن الأمين

اللقاء: الأول.

الشخصية المحاورة: سماحة القاضي السيد محمد حسن الأمين.

المكان: صيدا، جنوب لبنان.

التاريخ: 5/10/2005م ـ 3/رمضان/1426 هـ.

«العلماء ورثة الأنبياء»

المقدمة

:. من أجل التعرف على حياة الماضين من علمائنا الأعلام الذين بذلوا مهجهم من أجل إقامة الدين وترسيخه في النفوس، الذين ما فنأوا عاملين لنصرة المظلوم، الذين كانوا مصداقاً بحق لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:(أعظم الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر) فكانت حياتهم مليئة بالمواقف الصعبة والتضحيات الجسيمة، وكما يقال:(إن في كل شيء عبرة) فما أعظم أن نعتبر بحياة أولئك الرجال علماء شهداء تركت مواقفهم بصماتها على أرواحنا وتفكيرنا ومن تلك الشخصيات شخصية الشهيد السيد حسن الشيرازي، فإذا ما أردنا التعرف عليه أكثر كان لا بد لنا من البحث عن أشخاص عاشروا السيد واطلعوا على محنه وآلامه عن كثب، ومن تلك الشخصيات التي استضفناها لإجراء هذا الحوار السيد محمد حسن الأمين.

نبذة عن حياة المحاور

هو سماحة العلامة المجاهد القاضي السيد محمد حسن بن علي مهدي الأمين حفظه الله، حيث إنه ولد في سنة (1946م) في بلدة شقراء العاملية من جنوب لبنان، تخرّج من كلية الفقه في النجف الأشرف عام (1967م)،كان لسماحة السيد مواقف جهادية تجاه الاحتلال الصهيوني للجنوب والبقاع الغربي في لبنان، وهو من أعضاء مكتب جماعة العلماء الذي كان تحت إشراف سماحة الإمام الشهيد السعيد السيد حسن الشيرازي قدس سره، وعضو مؤسس لتجمع علماء جبل عامل.

في لبنان كان اللقاء

 سماحة السيد: ما هي علاقتكم بالسيد الشهيد حسن الشيرازي قدس سره ومتى بدأت هذه العلاقة؟

:. بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.

الحقيقة أن العلاقة التي تفضّلتم بالسؤال عنها بسماحة الإمام المجاهد السيد حسن الشيرازي بدأت يوم كان في لبنان، أي لم ترتقي في الزمن الذي كان مقيماً فيه في العراق في مدينة كربلاء المقدسة،بل بدأت في لبنان، وتعرّفت على هذه الشخصية المميّزة في لبنان وذلك في سبعينات القرن الماضي عندما كان شبه مقيم، أو مقيم فعلاً إقامة دائمة في لبنان، ويتردّد بين سورية ولبنان، ولكن إقامته على الأكثر كانت في لبنان.

الشهادة تاج الحياة

سماحة السيد: كيف تقيمون شخصية الشهيد السعيد قدس سره؟

:. في الحقيقة من الصعب على المرء أن يتحدث عن هذه الشخصية حديثاً عابراً وقصيراً لأنه لا يستطيع أن يفيها حقّها، ممّا يستوجبه الأمر، نظراً لسعة هذه الشخصية وأبعادها المتعدّدة ومزاياها التي قلّما يلتقي في شخص واحد كما التقت في شخصه المميّز، ولكن أودّ أن أشير إلى بعض السمات والملامح المميّزة من هذه الشخصية التي توّجت حياتها القصيرة جداً بالنظر إلى عدد السنوات، توّجتها هذه الشهادة التي تليق بتتويج حياة متواصلة بالجهاد وبالعمل وبالإنتاج بحيث تبدو الشهادة هي الحلقة الطبيعية الأخيرة التي تتوّج هذه الحياة المليئة بالمواقف المميّزة، وبالمواقف الجريئة، إضافة إلى الجهاد الطويل الذي مارسه الشهيد سواءً في مراحل عمره المبكّر في العراق، أو في مرحلة شبابه ومرحلة نضجه المميّز في العراق وفي لبنان  وفي سورية وعبر العالم الإسلامي الذي لا يكاد يوجد دولة من دوله لم يتعرّف الشهيد عليها إمّا مباشرة أو بواسطة رجال أو بواسطة أشخاص ما زال لهم انطباعات عميقة عن اهتمامات السيد الشيرازي بمجمل أماكن تواجد المسلمين، وخاصة الشيعة منهم.

شخصية مثالية جامعة

سماحة السيد قلتم من خلال حديثكم بأن شخصية الشهيد فذة ومتميزة فما هي برأيكم الجوانب المشرقة التي تمتعت بها شخصية الشهيد قدس سره؟

:. في الحقيقة أن السيد تمتع بميزات عدة منها:

الأخلاق الكريمة:

(الشخصية المحبّبة الجذّابة للسيد)، وهذا أمر أعتقد من أهمّ ما يتميّز به فما أن يلتقي السيد أحداً سواء كان شيعياً مسلماً أو سنياً مسلماً أو مسيحياً من أي دين أو طائفة إلا ويشعر أن ثمة صلة تنعقد بينه وبين السيد ويشعر بجمال هذه الشخصية وبصدقها وبحيويتها وتواضعها، كما يشعر في الوقت نفسه إنها شخصية مليئة بالمعرفة والعلم والجرأة والشجاعة التي هي ميزة الرجال، وغالباً ما تنعقد بينه وبين من يلتقي بهم ولو لمرة واحدة صلات عميقة يتذكّرها الطرفان السيد وذلك الشخص الذي التقى به.  

إذاً .. هذه الشخصية الجذّابة مباشرةً تدلّ على أنّ السيد لا يمكن حصر مواهبه أو حصر أهميته في كونه رجل دين شيعي أوسع من الدائرة الضيّقة، إنّه قادر على أن يعبّر في شخصيته عن نزوع إنساني رفيع، وهذا ما لاحظته من خلال الصداقات التي انعقدت بينه وبين عدد كبير من اللبنانيين الذين قيّض لهم أن يعيشوا معه ولو لفترات قصيرة.

الإيمان العميق:

يشعر الذين يتعرّفون عليه أنه وفّق، ووفّقه الله لصياغة شخصية روحانية إيمانية فيها الكثير الكثير من التلقائية، ولا يعتمد إطلاقاً أن يظهر من خلال هذه الأبعاد الدينية والروحية التي تحتوي عليها شخصيته.

يحاول أن يتحدث في أيّ موضوع أو قضية دون أن يكون كلامه مباشرة حول المواعظ الدينية التي ينتظرها الآخرون.

إنه يروي قصة، حادثة، خاطرة معيّنة، يسأل سؤالاً معيّناً ليس على اتصال مباشر في قضية دينية ولكنه في نفس الوقت يستطيع أن يخلق جواً من الروحانية والإيمان داخل حديثه بدرجة بالغة على كثير ممن تعرّفوا به، وأصابتهم عدوى الروحانية من الشهيد.

الأديب الناقد:

كان أديباً بطبعه، ومهذّباً بطبعه، بالغ الرّقّة والشفافية، ولذلك وفّق في أن يكون كاتباً وشاعراً من مستوى رفيع، بحيث استطاع أن يكون أديباً مطبوعاً، بالإضافة إلى أنّه كان أديباً باحثاً، وهو قد كتب في مجالات أدبية رفيعة، قد كتب في النقد الأدبي، وكتب في مجال الشعر، فكان من الشعراء ذوي الأبعاد المتعددة، فهو أوّل عالم كتب في الشعر الحر، وأكثر من ذلك إنّه جمع بين موضوعات مختلفة، وأضاف نبرةً جديدةً إلى الشعر المنبري الذي كان يلقى في العراق، وكان شاعراً رقيقاً، وكان شاعراً ثوريّاً، وكان يجمع هذه الأبعاد كلها بشعره كما في شخصيته.

 شخصية موسوعية:

الشخصية العلمية كانت ميّزة له، وهنا أودّ أن أدلي بشيءٍ مما يجب أن يقال في هذه الحالات النادرة التي يمثّل السيد الشهيد أحدها هو أنك لتعجب كيف يمكن لهذه الشخصية، وبهذا السن المبكر، وبهذا النشاط الحيوي والاجتماعي والديني، وعلى كل الصعد التي لا تتوقف، يصل إلى هذه الدرجة المميّزة من العلم والفقه والاجتماع والإطلاع على سائر الفنون والمعارف بهذه الصورة المميّزة؟!!

 ليس من السهل أن يحصل ذلك لو لم يكن لهذه الشخصية ذكاء غير عادي وقدرة على الاستيعاب وعلى الإلماح والإلماع والمعرفة يتجاوز فيها القدرات العادية لبقية الرجال، ويستطيع أن يحقق بزمن أقصر ما قد لا يستطيع تحقيقه الآخرون في زمن طويل.

لقد أكمل دراساته الأولية والسطوح وصولاً إلى دروس الخارج في وقت مبكر جداً من عمره، وبإتقان مميّز وبكتابات مبكرة شاهدت بعضها، وقد أطلعني على بعضها في سن مبكرة جداً، وكان أثناء ذلك أيضاً يعمل على توسيع دائرة اهتماماته وهو في تلك السنة المبكرة حقق إنجازات مهمة على صعيد الأدب، وكتابة البحث العلمي والبحث الأدبي.

إلهام ـ تواضع ـ تجدد

إذاً... هو شخصية موهوبة ملهمة استطاع أن ينجز عناصر شخصية في ذاته، وبدون ادعاء أو غرور أو أيّ شعور بالتفوّق دائماً كما هو معروف عن العلماء الحقيقيين بتواضع شديد وبكلام علمي دقيق، ويحتمل دائماً لرأيه الخطأ والصواب، وإن كنت أنت السامع غالباً بل دائماً ما تجد الوجاهة والوضوح والقناعة في رأيه الذي يتقدم به، وهو في هذا المجال يتميّز بالتجديد فعلاً، فهو له قراءات مذهلة في كثير من المسائل الفكرية والفقهية يتميّز بها عن غيره، ويملك موهبة غير عادية في عرض الموضوع أيضاً، ولا يخفي أنه هو يمتلك فكرة جديدة عن الموضوع، وتحليلاً جديداً إلا أنه يتميز بقدرة خارقة على العرض المبسّط والمبدع في المسألة العلمية التي يتناولها، أو في الرأي الذي يتناوله.

ثورة حتى الشهادة:

هنا أرجو أن يسمح لي بأن أستعمل كلمة الجهاد، وأن أتجاوز في استعمالها المعاني المعروفة لها، فربّما كان إطلاق هذه الكلمة، وفي هذه المناسبة وفي مناسبة الحديث عن الشهيد الشيرازي الذي عرفناه هنا في لبنان واستشهد بيننا ربما يكون إطلاق كلمة المجاهد هي من نافذة القول بأننا اعتدنا أن نطلق هذه الكلمة على كثير من الأحيان.

أودّ أن أقول: أنّ هذه الشخصية حتى لو لم تتعرّض للشهادة الميدانية الفعلية هي شخصية شهيد ومجاهد ليس في مصادماته المباشرة للطغيان، قد يحصل هذا كثيراً، ويكون الذين ينجزون هذا العمل مجاهدين، ولكن معنى الجهاد هنا هو أوسع وهو صدام مباشر مع الطغاة، وإقلاق مستمر لراحتهم، ولكنه في الآن نفسه جهاد بالمعنى الأوسع من أجل الحياة، ومن أجل إنجاز حياة حرة كريمة التي كان يحلم بها لشعوب العالم الإسلامي.

إنه كان مستعداً لأن يقوم بأيّ عمل من الأعمال، وبأيّ جهد من الجهود الكبيرة في سبيل إسعاد أمة، وكان طموحاً في أن يكون له دور يواجه فيه كل أشكال الاستيلاء والطغيان التي تتعرّض لها الأمة الإسلامية، وكان يرى أن تجديد الفكر والعقل والرؤية الدينية الصادقة للمسلمين هي الكفيلة بتقدمهم وخروجهم من عصر الانحطاط ومن عصر الاستعمار، ومن عصر الاستبداد أيضاً.

صلب في ذات الله

سماحة السيد: بما أن الكلام دار حول جهاد السيد الشهيد، فماذا كانت رؤيته للحكم الاستبدادي؟

:. لقد كان يكره الاستبداد بكل صوره وبكل أشكاله، وهذا طبعاً ما نعرفه عن الفترة القصيرة التي عاشها في العراق خلال النظام الأخير البائد، ولكنها كانت فترة مليئة بالجهاد الذي لا يساوم على شيء إطلاقاً.

وهنا في لبنان أيضاً لم يكن يساوم على شيء أبداً، كان قوياً وكان يريد للبنانيين (وهنا جهاده العظيم) أن يكون لهم الجرأة على تجاوز الحرب الأهلية اللبنانية، وكان يعمل في هذا السبيل، وإنني أعرف كم من الليالي والأيام التي قيّض لي أن أجلس معه ومع آخرين، وكان أحد أهم ما يطمح إليه هو أن يوجد العناصر الكفيلة بالتأثير على هذه الحرب البشعة التي كان يردّد دائماً بأنّ هذه الحرب هي من المصائب الكبيرة التي لا يصيب لبنان فحسب وإنما تصيب المسلمين، وأنه يجب وقفها.

الولادة في العراق والشهادة في لبنان

وأذكر أنه عمل في هذا السبيل، ولا بد أن تكون شهادته في لبنان، وفي بيروت بالذات، وإبان هذه المرحلة الصعبة من الوضع السياسي في لبنان ذات صلة بهذا الدور الذي قام به، فهو دنى من الذين يواجهون الحرب، وبالتالي من الذين يشكّلون خطراً على المستفيدين من هذه الحرب اللبنانية، وعلى المجرمين فيها، وأظن أنه نصح من قبل بعض المخلصين بأن يقلّل من موقفه الشاجب والنقدي للحرب اللبنانية، ويقلل من هذا الدور اليومي الذي يقوم به لوقف هذه الحرب، وبالتالي أريد أن تحذف هذه الشخصية لأنها تقف تجاه قضايا السلام ووقف الحرب، وبالتالي تقف باتجاه قمع النزعات الإجرامية والنزعات الاستبدادية التي كان يواجهها السيد في كل مكان، وأينما وجد، في العراق وفي لبنان، وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، بل على المستوى الدولي، وربما كانت هذه الفرصة التي وفّرت فيها مجموعته الشعرية هي فرصة كريمة من أجل أن يرى الاهتمامات الحقيقية للسيد في قضايا الحرية، وقضايا الإنسان، وقضايا التحرير، وفي قضايا العالم كله، بما يؤكّد ما بدأناه في أول هذا اللقاء من أنه شخصية إنسانية، يطغي البعد الإنساني فيها على أيّ خصوصية أخرى، وهذا لعمري من علامات الرجال العظام الذين كانت العناية الإلهية دور في تكريسهم بوصفهم رجالاً استثنائيين ومؤثّرين في عصرهم، وينتمون إلى هذا الخط خط النبوّة الصاعد، وخط الإمامة الذي كرّسته مثل هذه الإسهامات الكبيرة من قبل شهداء عظام، وفقهاء ورجال مجاهدين، ومنهم الشهيد المجاهد والصديق الكبير الإمام السيد حسن الشيرازي قدس سره.

سرور من الأعماق

وفي هذه المناسبة أودّ أن أعبّر عن سروري في نشر الأعمال الفكرية والأدبية للشهيد، في تقصّي ولا أظن أنّ أحداً يمكن قصّه أن يحصر مساحته من جهة علاقاته الإنسانية وأعماله الكبيرة وآثاره التي لا بد من الترتيب عنها وملاحقتها وإضافتها إلى سلسلة أعماله وسلسلة الكتابات التي توفّرت عن شخصيّته الشريفة.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.