وصايا سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) لأهالي كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته..

أما بعد، فقد قال الله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) صدق الله العلي العظيم.

إن العالم في أية مرحلة من مراحل العلم كان سواء في مدينة كبيرة أو صغيرة بل حتى لو كان في قرية، وفي أي سن من سني العمر كان، سواء أكان في عنفوان الشباب أم كان كهلاً وفي أي ظرف كان في الحرية أم الاستبداد في الملابسات أم في المشكلات وغيرها، فهو لا يستوي مع غيره وذلك لأمرين:

الأول: أن المستفاد من نفس هذه الكلمة في كتب البلاغة ومنها المطول والمختصر فضلا عن كتب النحو كالمغني وغيره أن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية، وحسب الاصطلاح النحوي قوله: (هَلْ يَسْتَوِي) إنكار إبطالي علماً أن ابن هشام تبعا لمن سبقه وغيره ممن قد اتبعوا خصوا الإنكار الإبطالي بالهمزة.

فمن كلام لابن هشام في أول المغني: قد تخرج الهمزة عن الاستفهام الحقيقي وترد لمعان منها الإنكار الإبطالي.

ولا يخفى أن هذا الكلام من ابن هشام وأمثاله من النحاة يعد كبوة ـ إذ ان الجواد قد يكبو ـ وقد كشف القرآن الكريم الذي هو قمة في البلاغة هذه الكبوة حيث استعمل غير الهمزة في الاستفهام فعبر بـ (هَلْ) التي هي للإنكار الإبطالي، فقد عز من قائل:( هَلْ يَسْتَوِي) فيكون المعنى هكذا: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

وإذا يسأل هنا لماذا؟

 

العلم بحاجة إلى الأخلاق

يقال في جوابه: لأنه كان يعلم وفي ذلك كفاية، فالمريض العالم بمرضه وعلاجه لا يراجع الطبيب للمعالجة لعمله، وكذا الحال بالنسبة للسائق الذي يعلم الطريق، فهو لا يوقف سيارته ويسأل الناس من أين الطريق، فهل من الممكن أن يستوي هذا السائق والذي لا يعلم الطريق؟ وهل يستوي ذلك المريض والذي لا يعلم ما هو دائم أو دواءه؟

بالطبع لا يستويان

الثاني: أن العلم بحاجة إلى الأخلاق ليكون نافعاً، ولكي تصبح هذه الطاقة الضخمة مفيدة، فلا بد أن يكون مع العلم حلم، علم معه بشر، علم معه صبر إذ أن الإنسان إذا علم أن الصبر أحجى يصبر، وإذا علم أن الحلم أفضل يكون حليماً، وإذا علم أن الشجاعة فضيلة يكون شجاعا وإذ علم نشر العلم زكاته ينشر علمه وهكذا..

وعلى كل فإن العلم بحاجة إلى أخلاق، بل إنه كالماء الهنيء الذي يحتاج أن يجعل في إناء  جميل ونظيف والا فإنه إذا وضع في إناء وسخ أو غير مناسب فإن عذوبته تذهب هدراً.

وكذا الحال بالنسبة للعلم، فهو بحاجة إلى الأخلاق، فإذا شفعت الأخلاق العلم يصبح الإنسان كالشيخ الصدوق «قدس سره» الذي خلد ذكراه بعد أكثر من ألف عام، ويكون كالشريف المرتضى والشريف الرضي «قدس سرهما» أما إذا لم تشفع الأخلاق العلم ولم تنظم إليه فربما نفس أهل الحي لا يعرفون الإنسان، وقد يعيش في قرية والحال أن أهلها لا يعرفونه.

بالطبع إننا عندما نوصي بالأخلاق مرادنا بذلك المعنى العالم وليس فقط البشر وطلاقة الوجه، إذ أن البشر واحد من أجزاء أو جزئيات الأخلاق.

 

العلماء يتأسون بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

من جانب آخر فإننا إذا بحثنا في التاريخ لنعتبر منه نجد أن العلماء جميعا لم يخلد ذكرهم، وإنما وحدهم الذين كانوا متخلقين بأخلاق الرسول وأهل بيته «عليهم السلام» فعلى سبيل المثال إذا أسيء إلي أو أحد الأخوة الكرام الموجودين كيف يكون ردنا؟

الجواب: ينبغي أن تأخذ ذلك من سيرة رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» وأهل بيته الأطهار «عليهم السلام» فهذا الإمام الحسين «عليه السلام» عندما كان في طريقه إلى كربلاء اعترضته عصابة مؤلفة من ألف مسلح بقيادة الحر بن يزيد الرياحي وقد كان هدفهم هو تسليم سيد الشهداء «عليه السلام» مكتوفا إلى ابن زياد علماً أنهم أعلنوا هذا الهدف أمام الإمام الحسين «عليه السلام» أكثر من مرة، بل إن سيد الشهداء ليس فقط كان يعلمهم بهدفهم، وإنما كان يعلم أن بعضهم سيشترك في قتله وقتل أبي فضل العباس «عليه السلام» وعلي الأكبر والقاسم فضلاً عن صحابته الأخيار، ومع ذلك كله لما رآهم عطشى سقاهم الماء.

هذه صورة من أخلاق أهل البيت «عليهم السلام» التي إذا وجدت في أي عالم يكون موفقاً في الدنيا عظيماً عند الله تعالى، سواء أكان شاباً أم شيخاً في مدينة أم في قرية، في المشكلات الاقتصادية والسياسية أم في الحرية. وقد صدق رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» مؤسس هذا الأساس حيث قال: « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

 

تمام مكارم الأخلاق

فالرسول عمل ألف عمل وعمل ومن أعماله أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا ومع ذلك فهو لا يقول إنما بعثت لهذا العمل أو لذاك وغيره، بل يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

وعليه فإن مكارم الأخلاق هي أهم شيء للعالم الذي ليس كل الناس في مستواه.

والآن اسمحوا لي أن أنقل لكم هذا الموقف التاريخي العظيم ولكن قبل نقله إليكم أقول: هناك بعض المواقف الخالدة التي إذا ذابت الدنيا فإنها لا تذوب، وإذا كانت الجبال تنسف كما يقول القرآن الكريم وصدق الله سبحانه حيث قال: ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا" فإن مثل هذه النماذج لا تنسف.

يقول المؤرخون: أن أحد المشركين جاء إلى المدينة عندما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» رئيس حكومة وزعيم ثورة، في تلك العصور التي كان ظلام الاستبداد قد طبق على كل الكرة الأرضية ولا أحد يستطيع أن يسأل سؤالاً من حاكم، يأتي هذا المشرك الذي هو في الخندق المقابل لرسول الله ويلوي رداءه الخشن بكل شدة على رقبته بحيث أن أنفاس رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» كادت أن تنقطع وقد بقى أثر ذلك الثوب الخشن في عنق الرسول في تلك اللحظات، قال الكافر لرسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» يا أبا القاسم إذ أنه لم يكن مؤمنا أصلا حتى يقول يا رسول الله المال ليس مالك ولا مال أبيك مر لي بشيء من المال آنذاك حيث كان رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أقوى شخصية على وجه الأرض حقيقة وظاهراً إذ أن أقوى حكومتان في ذلك العهد هما الروم والفرس وقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أقوى منها التفت إليه وقال: صحيح أن المال ليس بمالي ولا مال أبي ولكن لماذا صنعت هكذا؟ فهل لي حق أن أقتص منك؟ وإذا بالكافر يقول: ليس لك حق فتسائل الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم»: منه قائلاً لماذا؟

فأجاب الأعرابي المشرك: لأنك لا تجازي السيئة بالسيئة، فأنت يا رسول الله قد بعثت لتتمم مكارم الأخلاق وإذا أسأت أنا الكافر إليك لا تواجهني بالسوء.

 

كربلاء في الجنة

لذلك فإن القرآن الكريم يوصينا بالتعليم من رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» حيث قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ  لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). من هنا فإني أوصيكم يا من عايشتم المظالم في العراق وقد خرجتم ولله الحمد للتي منها خاصة في مدينة كربلاء المقدسة التي ورد في الأحداث من العامة والخاصة أن الله سبحانه وتعالى يبيد الكرة الأرضية يوم القيامة ما عدا كربلاء فإنها تكون في الجنة بل ومن أفضل بقاعها. لقد تفضل الله سبحانه عليكم بهذا الجوار الذي ليس هناك شيء أعظم منه كما في الأخبار الشريفة وسوف يتقاطر عليكم في المستقبل الذين ملئت قلوبهم حباً للإمام الحسين «عليه السلام» وأبيه وأخيه وسائر ذريته «عليهم السلام» من شتى أنحاء العالم بالملايين خاصة في الزيارات المخصوصة كليالي الجمعة وغيرها وسوف يكونوا ضيوفاً عندكم وكلهم عندما يعودون بحاجة إلى كلمتين ترجعان إليكم وإلى الذين يسكنون هذه المدينة المقدسة:

 

كربلاء أفضل بقاع الجنة

الأولى: ينبغي أن يكون انطباعهم الشخصي عن أهالي كربلاء جميعاً: العلماء، الخطباء، الخبازين، الحدادين، العطارين، أصحاب الفنادق وغيرهم من الذين سكنوا هذه المدينة المقدسة أنهم تخلقوا بأخلاق الإمام الحسين «عليه السلام» بحيث أن كل من يزور كربلاء ويبقى فيها ولو لمدة يوم أو ليلة يلامس هذه الأخلاق. بل ينبغي أن يكون أخلاقكم بشكل أن كل من يرد إلى كربلاء يشعر أن دخل أرضاً هي ليست فقط أفضل بقاع الأرض وإنما هي أفضل بقاع الجنة علماً أن الزائر سيرتب انطباعاً خاصاً عن أهل المدينة وهذا يرجع إليكم أيها العلماء وإلى كيفية ترتيبكم لأهالي المدينة الذين سيأخذون بقولكم ويتأثرون بأعمالكم وكما في الحديث الشريف:«كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم». بطبيعة الحال أن هذا الحديث ليس موجه إليكم فقط أيها العلماء الأفاضل لكونكم متصدين لهذا الأمر، بل إنه يشمل حتى ذلك الخباز والسائق وأصحاب الفنادق الذين يتأثرون بترتيبكم إن شاء الله.

الثاني: ينبغي أن تكون أفضل هدية يأخذها الزائر الذي يدخل إلى كربلاء التي هي أفضل بقعة من بقاع الجنة ليس فقط التربة والسبحة مع علو مكانتها وقداستها الرفيعة، إذ أن قداسة الجنة بقداسة أهلها، وكذا بالنسبة إلى كربلاء التي قداستها بقداسة سيد الشهداء «عليه السلام» فمن المفترض أن الزائر يحمل لأهله وأقرباءه وأصدقاءه هدية من كربلاء المقدسة ألا وهي أفكار وأسلوب سيد الشهداء «عليه السلام» التي هي قمة في العظمة. وهذا يحتاج إلى من يحمله الكتب والكراريس وغيرها من الوسائل التي ينبع عنها واقع الإمام الحسين «عليه السلام» وهذا أيضاً يرجع إليكم. فلو أن هذا الجمع المكون من أربعين فرداً صار أربعمائة أو أربعة آلاف وشيئاً فشيئاً صار في المستقبل أربعين ألف نفر وعمل كل واحد منهم اثنا عشرة ساعة من أجل تغطية هذا الأمر لن يستطيعوا ذلك إذ أنه لا يمكن لأعداد قليلة أن يقدموا الخدمة لمئات الملايين، ولكن يبقى القول إن الله تعالى يجعل البركة فاسعوا وحاولوا ببركة من جعلكم الله منعمين بجواره أن يرجع زوار كربلاء هم حاملين لهاتين الكلمتين، وإني في هذا المقام أشكركم كثيراً على هذا التشريف وأدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون في عونكم وأن يكون الإمام الرضا «عليه السلام» وأخته العظيمة فاطمة المعصومة شفيعان لنا ولكم جميعاً في قضاء حوائجنا للدنيا والآخرة وصلى الله على محمد وآل محمد.