القضاء والقدر وفق الروايات الشريفة

alshirazi.net

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين والى قيام يوم الدين..

وبعد: القضاء بمعنى الإنتهاء لغة وعرفاً، فقد يكون تكوينياً مثل: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)[1] ومنه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ)[2] وكذلك قوله سبحانه كناية عن السحرة: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ)[3] وقول يوسف عليه السلام: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)[4]

وقد يكون تشريعياً مثل: (وَقَضَى‏ رَبُّكَ  أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[5] فإن هذا بمعنى الانتهاء التشريعي, أي إنتهى الأمر بهذه الصيغة, ومنه يسمّى القاضي قاضياً, وهذه مبني على ما اختير في الأصول[6] من عدم وجود الاشتراك أما من قال بأن القضاء له معان:

مثل: الخلق, ومثّل بقوله سبحانه: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ).

ومثل الفراغ من الأمر, كقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)[7]

ومثل الإعلام والإخبار كقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ  فِي الْكِتَابِ)[8].

ومثل الأمر والإيجاب والحكم مولوياً أو إرشادياً كقوله سبحانه: (وَقَضَى‏ رَبُّكَ  أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[9] وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)[10].

إلى غير ذلك مما ذكروا.. فليس كما ينبغي, ولهذا نشاهد أن بين الجميع الجامع الذي ذكرناه, وهو الانتهاء تكويناً أو تشريعاً, فقوله سبحانه: (وَقَضَيْنَا إِلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ) بمعنى أنهينا هذا الخبر إليهم بما ذكرناه في الكتاب المنزَّل عليهم.

تعريفاً واستعمالاً:

والقدر أيضاً لغةً وعرفاً بمعنى واحد وهو التقدير بجعل الحدود للشيء, ومنى (رحم الله امرءً عرف قدره)[11] أي حدوده في كل شؤونه, مثل حدود مصرفه وحدود كلامه وحدود حركته وسكونه وحدود علمه وغير ذلك.. لأن من لم يعرف الحدود فرّط أو أفرط.

وما ورد في القرآن من هذا اللفظ فهو بهذا الجامع, مثل قوله سبحانه: (وَقَدَّرَ فِيهَا أقْوَاتَهَا)[12].

وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[13].

وقوله سبحانه: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ)[14].

وقوله سبحانه: (وَلكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ)[15]

أما قول بعضهم: إنه قد يكون بمعنى الخلق ومثّل بقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا اقْوَاتَهَا)[16]

وقد يكون بمعنى: وضع الأشياء في مواضعها ومثّل لذلك بقوله عزوجل: (إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[17]

وقد يكون بمعنى: تلك الأوضاع والخصوصيات المقدّرة والإخبار عنها وكتابتها في اللوح, كقوله تعالى: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ).

ففيه الاشكال الذي ذكرناه في من جعل للقضاء معان متعدّدة.

ويدل على ذلك ما نشاهده من أن اللفظة الواحدة يتبادر منها في العرف المعنى الواحد, أو يفهم منها ذلك, والمراد عرف أهل اللسان, فإن العرف قد يكون عامّاً, وقد يكون خاصّاً, أي: عرف هذه اللغة[18] أو عرف هذه المهنة أو عرف هذا العالم إلى غير ذلك..

 نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر:

ثم لا إشكال في أن غير أفعال الإنسان[19] ومن اشبه من الملائكة والحور والجن الشياطين والحيوانات، تتعلق بالقضاء والقدر، فالقول: بأن الأشياء بقدر الله وقضائه يراد بذلك التكويني بأسبابها ومقدماتها وشرائطها وما أشبه ذلك سواء كانت وجودات أو أعداماً، إيجاداً وإعداماً.

أما بالنسبة إلى الأفعال الإختيارية للإنسان ومن أشبه فالمراد بالقضاء والقدر: أن الله سبحانه وتعالى قدّر هذا التقدير وحكم بهذا الحكم، مثلاً: قدّر في الصلاة المصلحة وفي شرب الخمر المفسدة وحكم بالأول إيجاباً وبالثاني سلباً، كما أن الله عز وجل قدّر أن يكون الإنسان مختاراً.

وفي البحار عن الإحتجاج ان رجلاً واجه أمير المؤمنين عليه السلام وقال لعلي عليه السلام فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: (الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية والمعونة على القربة اليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد والترغيب والترهيب كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن له محبط للأعمال، فقال الرجل: فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك)[20].

ثم انه قد روى عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: (لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدرة وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر)[21].

 تعقيب:

قال الإمام الشيرازي الراحل: وكفر لأنه لم يعترف بما يرتبط بالله سبحانه وتعالى وأنكره ومن الواضح ان الإنسان لا يقدر على نقض ارادات الله التكوينية ولا التشريعية..

ومعنى الحديث: (المشيئة) التطلب وابتداء الفعل، و(الإرادة) التهيؤ للفعل والثبوت عليه, و(قدر) بمعنى تعيين الحدود له, و(القضاء) بمعنى الحكم بذلك, و(الإذن) أي الإذن تكوينياً أو تشريعياً, فالتكويني  مثل قوله سبحانه: (كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)[22], والمراد بـ (الكتاب) أنه سبحانه كتبه في اللوح المحفوظ أو في مكان الذي يكتب فيه, والمراد بـ (الأجل)  أن لكل شيء مدّة, فإن الأجل قد يطلق على آخر المدة مثل قوله سبحانه: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ)[23] وقد يطلق على كل المدة كما يقال: أجل فلان خمسون سنة, وقد يطلق على أول المدة كما قال سبحانه: (مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ)[24] وكان أول هذا التشريع ذلك الوقت, وبذلك ظهر أن تعلق مشيئة الله سبحانه بالتكوينيات تكوينها, وتعلق مشيئته بالفعل الاختياري للإنسان وغيره في المقدمات ـ كخلق الإنسان مختاراً وما أشبه ـ الصادر هذا الفعل عن قدرة الإنسان التي أعطاها الله إياه, وتكون هي العلة المستقلة له, لا أن مشيئة الله علة ثانية حتى يلزم توارد العلّتين المستقلتين على معمول واحد, إما كل مستقلاً وذلك محال لأن الشيء الواحد لا يكون له إلاّ علة واحدة, وإما بالكسر والانكسار وذلك يلزم منه أن يكون كل واحد من العلّتين جزء علة, أما متساوياً أو مختلفاً, والمفروض أن العلة واحدة لا جزء علتين, فعلّة فعل الإنسان الاختياري إرادته واختياره, أما مشيئة الله سبحانه وتعالى فهي تتعلق بمقدمات ذلك, الفعل وأسبابه والدواعي إليه وحدود القدرة المفاضة إليه بشرائطه ودفع الموانع وما أشبه ذلك, فالمراد بالروايات نفي التفويض لا إثبات الجبر وإلا كان ذلك من أظهر التناقض, تعالت كلماتهم (عليهم السلام جميعاً) عن ذلك, فالإنسان العاقل منزه عن مثل ذلك فكيف بالشخص المعصوم.

 روايات تؤكد:

وهنالك جملة كبيرة من الروايات تشير إلى ما ذكرناه:

فعن يونس عن الرضا عليه السلام قال: قلت: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى, فقال: «لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى, قال: قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل, قلت فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه, قلت: فما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه, قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضاه أمضاه فذلك الذي لا مردّ له»[25].

والظاهر من قوله عليه السلام في معنى (شاء) أنه إبتدأ الفعل: ما ذكرناه في تفسير الرواية[26], أما ما ذكره العلامة المجلسي (قدس الله سره) من أن ابتداء الفعل هي الكتابة في اللوح أو أول ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه مما يؤدي إلى وجود المعلول فغير ظاهر.

فعن معلّى بن محمد قال: سئل العالم عليه السلام: كيف علم الله؟ قال: (علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى, فأمضى ما قضى وقضى ما قدّر وقدّر ما أراد, فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإرادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء, فالعلم متقدّم على المشيئة والمشيئة ثانية والإرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء, فلّله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء)[27].

وعن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (إن الله إذا أراد شيئاً قدّره, فإذا قدّره قضاه, فإذا قضاه أمضاه)[28].

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: (المشيئة الاهتمام بالشيء, والإرادة إتمام ذلك الشيء)[29].

وفي رواية يونس عن الرضا عليه السلام مما رواه محمد بن إسحاق قال: إنه عليه السلام قال ليونس مولى  علي بن يقطين: «يا يونس, لا تتكلّم بالقدر, قال: إني لا أتكلَّم بالقدر ولكني أقول: لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدّر, فقال: ليس هكذا أقول, ولكني أقول لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى, ثم قال: أتدري ما المشيئة؟ فقال لا, فقال: همّه بالشيء, أو تدري ما أراد؟ قال: لا, قال: إتمامه على المشيئة, فقال: أو تدري ما قدّر؟ قال: لا, فقال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء, ثم قال: إن الله إذا شاء شيئاً أراده قدّره وإذا قدّره قضاه وإذا قضاه أمضاه)[30] الحديث.

تنبيه وتوضيح:

«الهندسة» معرّب «أندازه» باللغة الفارسية, وليس المراد بها ـ في هذا الحديث ـ أو بما أشبهها: الطول والعرض والعمق فقط, فقد تكون في المعنويات وقد تكون في المادّيات وقد تكون بالنسبة إلى الشرائط والدوافع والموانع والزمان والمكان وغير ذلك, فإن رعاية مجموع هذه الأمور تسمّى بالهندسة أو التقدير أو (اندازه) ـ باللغة الفارسية ـ أو ما أشبه ذلك والحمد لله رب العالمين.

__________________________________

[1] سورة فصلت: 12.

[2] سورة الجمعة: 10.

[3] سورة طه: 72.

[4] سورة يوسف: 41.

[5] سورة الإسراء: 23.

[6] راجع (الأصول) و(الوصول إلى كفاية الأصول) للإمام الشيرازي الراحل قدس سره.

[7] سورة يوسف: 41.

[8] سورة الإسراء: 4.

[9] سورة الإسراء: 23

[10] سورة غافر: 20.

[11] غرر الحكم ودرر الكلم: ص233 ح 4666 الفصل الأول في النفس.

[12] سورة فصلت: 10.

[13] سورة القمر: 49.

[14] سورة النمل: 57

[15] سورة الشورى: 27.

[16] سورة فصلت: 10.

[17] سورة القمر: 49.

[18] وهو اللغويون.

[19] أي الأفعال غير الإختيارية كنبضات القلب وما أشبه.

[20] الإحتجاج: ص209، وبحار الأنوار: ج5ص96ب3ح20

[21] الكافي: ج1ص129ح1.

[22] سورة البقرة: 249.

[23] سورة الأعراف: 34.

[24] سورة: المائدة.

[25] المحاسن: ص244 ب25 ح237.

[26] أي التطلب.

[27] بحار الأنوار: ج5 ص 201 ب3 ح27.

[28] المحاسن: ص243 ب25 ح235.

[29] أعلام الدين: ص307.

[30] المحاسن: ص244 ب25 ح238.