الموت أول مراحل الآخرة

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وبعد: إنّ أول مرحلة من مراحل الآخرة هو الموت, والموت ما لا يشك فيع أحد, سواء كان الشخص إلهياً أو غير إلهي, كتابياً أو غير كتابي, لأنه شيء مشاهد محسوس للكل..

أما ما ورد من (أشهد أن الموت حق) فالمراد به: إن ما قيل عن الموت من أنه

إمّا إلى خير وإمّا إلى شر أو ما أشبه ذلك, وإلاّ فهو مثل قول من يقول: (أشهد أنه إمّا إلى خير وإمّا إلى شر أو ما أشبه ذلك, وإلاّ فهو مثل قول من يقول: (لأشهد أن الشمس حق), نعم يصحّ ذلك في قبال السوفسطائيين الذين ينكرون كل الحقائق.

ومن الواضح قولهم: (أشهد أن الموت حق وأن القبر حق) يراد به التوابع والخصوصيات والمزايا المذكورة في الآيات والروايات وليس الكلام في قبال السوفسطائيين.

وقد أكثر القرآن الحكيم والروايات المروية عن المعصومين عليهم السلام من هذا الموضوع والتأكيد عليه:

قال سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران:184.

قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن:26.

وقوله عزَّ وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) الزمر:30.

فقد قال البعض: إن هذه الآية نزلت حيث توقع المسلمون أن لا يموتوا, وأن رسول الله صلى الله عليه وآله لا يموت, لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد فعل المعجزات والأعاجيب الكثيرة فتوقعوا ذلك منه أيضا, فردهم الله سبحانه بقوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «انما خلقتم للبقاء لا للفناء» غرر الحكم ص133.

وفي حديث آخر قال عليه السلام: «خلقتم للأبد وإنما تنقلون من دار إلى دار» الإرشاد ج1ص238.

وقال أيضاً صلى الله عليه وآله: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم» معاني الأخبار: ص289ح3 باب معنى الموت.

عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: «يا رسول الله ما لي لا أحب الموت؟ فقال: ألك مال؟ قال: نعم, قال: فقدمته؟ قال: لا, قال: فمن ثم لا تحب الموت» الخصال:ص13ح47.

وفي حديث قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: «صف لنا الموت؟ فقال علي عليه السلام: على الخبير سقطتم, وهو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: إمّا بشارة بنعيم الأبد, وإمّا بشارة بعذاب الأبد, وإمّا تحزين وتهويل, وأمره مبهم لا يدري من أيّ الفرق هو, ـ إلى أن قال ـ : فاعلموا وأطيعوا ولا تتكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله, فإن من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلاّ بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة», كذا في البحار.

وسئل الحسن بن علي عليه السلام: «ما الموت الذي جهلوه؟ فقال: أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد, وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفى» بحار الأنوار ج6ص152 ب6ح9.

ومن الواضح أنّ المراد بالكافرين المتعمّدون والمعاندون أو المقصّرون الذين يمتحنون في الآخرة ويخرجون من الامتحان فاشلين, فإذا كانت الدنيا دار امتحان خمسين سنة أو أقل أو أكثر, فالآخرة دار امتحان خمسين ألف سنة إلى جانب كونه دار الحساب والثواب والعقاب, قال تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) المعارج:4.

وعن الإمام الحسين عليه السلام في حديث قال: «فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة, فأّيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب» معاني الأخبار ص289.

وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه سئل عن الموت؟ فقال: «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطأ المراكب وآنس المنازل, وللكافر: كخلع الثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب» معاني الأخبار ص289.

وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه سئل عنه الموت؟ قال: (هو النوم الذي يأتيكم كل ليلة إلا أنه طويل مدته لا ينتبه منه إلا يوم القيامة, فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره, ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره» نفس المصدر ص289.

قال الإمام الشيرازي قدس سره: وهذا من باب المثال في بعض الجهات, فكما أن الإنسان لا يمكنه أن ينكر ما في الرؤيا من حسن أو قبيح, كذلك لا يتمكن أن ينكر أن ما وراء الموت الذي هو أخ النوم شيء حسن أو شيء قبيح، الفقه، العقائد ص74.

وفي رواية قيل للإمام الصادق عليه السلام: صف لنا الموت, فقال: «للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كله عنه, وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد» علل الشرائع ص289.

«وفي رواية عن يعقوب قال: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام نعزيه بإسماعيل, فترحم عليه ثم قال: إن الله عز وجل نعى إلى نبيه صلى الله عليه وآله نفسه فقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ) قال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ثم أنشأ يحدث فقال: إنه يموت أهل الأرض حتى لا يبقى أحد, ثم يموت أهل السماء حتى لا يبقى أحد, إلا ملك الموت وحملة العرش وجبرئيل وميكائيل قال فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي الله عزّ وجل, فيقال له: من بقي؟ وهو أعلم, فيقول: يا ربّ لم يبق إلا ملك الموت وحماة العرش وجبرئيل وميكائيل, فيقال: قل لجبرائيل وميكائيل فليموتا, فتقول الملائكة عند ذلك: يا ربّ رسولاك وأميناك؟ فيقول: إني قد قضيت على كلّ نفسٍ فيها الروح أن تموت, ثم يجيء ملك الموت يقف بين يدي الله عزّ وجل فيقال له: من بقي؟ وهو أعلم, فيقول: يا ربّ لم يبق إلاّ ملك الموت وحملة العرش, فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا, قال: ثم يجيء كئيباً حزيناً لا يرفع طرفه, فيقال له: من بقي؟ فيقول: يا ربّ لم يبق إلا ملك الموت, فيقال له: مت يا ملك الموت فيموت, ثم يأخذ الأرض بيمينه والسماوات بيمينه ويقول: أين الذين كانوا يدّعون معي شريكاً؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلهاً آخر» بحار الأنوار ج6ص329 ب2ح14.

قال الإمام الشيرازي قدس سره: والمراد بـ (أخذ الأرض بيمينه والسماوات بيمينه) أنّ لله سبحانه وتعالى حيث لا يحتاج إلى أحد من الملائكة الحفظة ومن أشبههم فحينئذٍ هو الذي يتولّى كل الشؤون بنفسه, وإنما خلق الملائكة أسباباً لما جعل الدنيا بل الكون دار أسباب الفقه العقائد ص74.

 

فلسفة الموت:

وأما (فلسفة الموت) فمنها: بيان عدم الاحتياج إلى أيّ شيء أو أيّ شخص من كبير أو صغير من جليل أو غير جليل, ولعل موت الملائكة لأجل أن يعرفوا بالوجدان قدر الحياة أيضاً.

وعن الإمام الكاظم عليه السلام: «إنّ الموت هو المصفات يصّفي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم, ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو نعمة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم» جامع الأخبار ص168.

وكذلك وردت في هذا الباب روايات كثيرة أخرى عنهم عليهم أفضل الصلاة والسلام لم نذكرها اقتصاراً واختصاراً.

 

بقاء جسمانية الإنسان:

الإنسان من بدأ خلقته إلى منتهى ما يصل إليه من الكمال, باقٍ على ماديتّه وجسمانيته, فهو مادي وجسماني, وزماني ومكاني, وفقير ومحتاج في بقاء ذاته وجميع كمالاته المادية والمعنوية إلى الله سبحانه الغني المطلق والواجب المتعال..

لأنّ الممكن لا ينقلب واجباً كما لا ينقلب ممتنعاً, والجسم لا ينقلب عن الجسمية إلا التجرّد, فان التجرّد بالنسبة إلى غير الله سبحانه وتعالى غير معقول ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ, فليس هناك تجرّد يصطلح عليه بالاتحاد مع الله أو الحلول فيه في أو ما أشبه ذلك مما زعمه بعض الفلاسفة ومن أشبههم, , بل الله يبقى على ألوهيته المجرّدة العالمة لذاته إلى آخر صفاته ولا يشاركه فيها غيره والحمد لله رب العالمين.

 والحمد لله رب العالمين.