بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين
واله الطيبين الطاهرين المظلومين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من
الآن إلى قيام يوم الدين.
الأمم تتمايز وتتسابق في المحافظة على آثارها والاعتزاز بعظمائها لأجل
السير على نهجهم واقتفاء آثارهم ويشذ عن ذلك بعض
الأمم حيث تجدُ في طمس
معالمها واخفاء آثار عضمائها رغم دورهم في تقدمها وازدهارها، ومن
هذا المنطلق عمل الأعداء في سبيل كسر اجنحة الأمم الأخرى
- كي لا تتقدم
- إلى مصادرة جهود
رموزها تارة او إلى القضاء على تاريخها بما يحمل من آثار،
واستطاع الاعداء ذلك في امتنا الإسلامية عبر اصطناع مذاهب تحرِّم تعظيم او تقديس
أي اثر يذكِّر أبناء الإسلام برموزهم وعظماءهم، وفي مقدمة ذلك
المراقد الطاهرة لأئمة الهدى في البقيع الغرقد صلوات الله عليهم،
وسنسلط
الضوء على تاريخ هذه البقة المباركة مساهمة في بيان شأنها ودورها في
النهوض الإصلاحي العام الذي نتوخاه.
بقيع الغرقد:
في
الأصل قطعة ارض فيها أشجار العوسج في المدينة المنورة، وأول من دفن
فيها اسعد بن زرارة الأنصاري ثم دفن بعده الصحابي الجليل عثمان بن
مظعون بعد ذلك دفن فيها إبراهيم ابن رسولنا الأكرم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وآله ولما رأى المسلمون ان الرسول صلى الله عليه وآله قد
دفن ابنه فيها اتخذوها مقبرة لهم حيث قاموا بقطع الأشجار وإعداد الأرض
لذلك.
أهل البقيع رموز الحضارة الإسلامية:
بعد
ان أصبحت البقيع مقبرة أهل المدينة دفن فيها الكثير ممن كانت لهم اليد
الطولى في تأسيس الحضارة الإسلامية والجهاد في سبيل الله سواء مع
الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله او في أزمنةٍ لاحقةٍ بعده، وبخاصة
وان الكثير من أهل بيت العصمة والنبوة صلوات الله عليهم قد دفنوا فيها
لا سيما السيدة الجليلة فاطمة الزهراء سلام الله عليها ـ كما هو محتمل
حيث ان قبرها مجهول ـ وكذلك أربعه من الأئمة المعصومين عليهم السلام
وهم: الإمام الحسن المجتبى والإمام زين العابدين علي بن الحسين والإمام
محمد الباقر والإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، إضافة إلى محمد
بن الحنفية والحسن بن الحسن وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر
وإسماعيل بن الإمام الصادق ومحسن السقط بن أمير المؤمنين عليه السلام
ومحمد بن زيد والحسن بن جعفر ومحمد بن النفس الزكية وبعض زوجات الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وعماته ومرضعته حليمة السعدية.
وزبدة المخض: إن البقيع الغرقد أصبح من أهم البقاع المباركة التي
نستطيع من خلالها دراسة التاريخ الإسلامي وحضارته العريقة فكل شخصية
رقدت فيه جسّدت لنا جانب مهم من جوانب بناء الحضارة الإسلامية بل أن
بعض الشخصيات كان لها الدور المحوري الرئيسِ في عصره، فكان فلك الزمان
يتخذه قطباً، والمسلمون اليه ينجذبون، ومنه يصدرون، وحوله يطوفون، ومن
علومه يغترفون، فكانوا بحق مجددي الإسلام وحافظيه من الضياع، وببركتهم
اتسع، وعظم، حتى أصبح أقوى وأعظم دولة في العالم.
البقيع يجسد مظلومية أهل البيت عليهم السلام:
البقيع يمثل جانب من مظلومية العترة الطاهرة بل هو صرخة الدهر بوجه
الظالمين فلا عجب عندما تقف أمامه متأملاً بما تضمن من رموز لابد وانك
ستغوص في أعماق التأريخ لتتذكر وقائع ألمّت بأهل البيت سلام الله عليهم
لاسيما الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام ومظلوميتها وغصب
حقها، كذلك الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه فعند ما تذكره فلا شك
ستتراءى لك واقعة الدفن وما صاحبها من أحداث.
وبالتأكيد سوف ينتقل ذهنك تلقائياً وأنت تقف أمام ضريح الإمام السجاد
زين العابدين عليه السلام إلى واقعه الطف الأليمة فالحقبة الزمنية بعد
الإمام الحسن عليه السلام كان يدور فلكها حول سيد الشهداء عليه السلام
إلا انك لا تجد له قبراً في البقيع وكأن البقيع يناشدكَ بها ويستفهم
منك عنها، وبخاصة وان حلقاته بعد الإمام السجاد متناسبة ومتصلة،
فالإمام محمد الباقر ثم الإمام جعفر الصادق عليهما السلام حتى إذا ما
وقفت عنده للزيارة تراءت لك تلك القصة الحزينة التي عاشها الإمام
الكاظم عليه السلام وإبعاده عن المدينة المنورة إلى بغداد حيث استشهاده
سلام الله عليه.
اذاً فبقيع الغرقد هو التأريخ الناطق والمرآة الناصعة للتأريخ
الإسلامي وتدّرج حقيقي للحضارة الإسلامية.
بقيع الغرقد في عقول الظالمين:
البقيع منذ سنواته الأولى كان يتحدى الطغاة والظالمين ويعتبرونه تجمع
للثائرين والمجاهدين فتعال معي لترى مكانته في عقول الظلمة وبخاصة رأس
الطغاة «أبو سفيان» ففي حديث المناشدة والمحاجّة بين الإمام الحسن
المجتبى عليه السلام ومعاوية بن ابي سفيان، قال الإمام الحسن عليه
السلام:
«ثم
انشدكم بالله هل تعلمون ان ابا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن أخي هل علينا من عين فقال:
لا. فقال ابو سفيان: تداولوا الخلافة فتيان بني أمية فوالذي نفس ابي
سفيان بيده ما من جنه ولا نار.
وأنشدكم بالله أتعلمون ان ابا سفيان اخذ بيد الحسين ـ عليه السلام ـ
حين بويع عثمان وقال: يا ابن أخي اخرج معي إلى بقيع الغرقد فخرج حتى
إذا توسط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته: يا أهل القبور الذي كنتم
تقاتلونا عليه صار بأيدينا وانتم رميم.
فقال الحسين بن علي عليه السلام قبّح الله شيبتك وقبح وجهك ثم نتر يده
وتركه فلولا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينة لهلك».
فالبقيع كان يمثل في نظر اباسفيان رمز المجاهدين الإسلاميين فهو يمثل
الجانب الآخر في معركة المصير التي خاضها ابا سفيان ضد الإسلام، ولا
عجب من ذلك فالرسول العظيم صلى الله عليه وآله كان دائماً يخاطب أهل
البقيع بعبارة «سلام عليكم دار قوم مؤمنين»، وكان صلى الله عليه وآله
يزور البقيع ويسلم على أهله ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين
وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وانّا ان شاء الله بكم لاحقون اللهم
اغفر لأهل بقيع الغرقد» حيث انه صلى الله عليه وآله كان يقول: «إنني قد
أُمرت بالاستغفار لأهل البقيع». |